من أجل ذلك قال جماعة من المفسرين : إنما كان ذلك في صدر الإسلام ، ثم نسخ بما تلونا ، واستقرت الشريعة على أنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه ، ولا ينبغي دخول البيت إلا بإذن أهله.
وقال أبو مسلم الأصفهاني : هذه الآية في الأقارب الكفرة ، أباح الله سبحانه للمؤمنين ما حظره في قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] وقال قتادة : الآية التي معنا على ظاهرها ، والأكل مباح دون إذن ، لكنه لا يجمل.
والصحيح الذي عليه المعول في دفع هذا التعارض أنّ إباحة الأكل من هذه البيوت مقيّدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة ، فإذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وقد يقال : إذا وجد الرضا جاز الأكل من بيت الأجنبي والعدو ، فأي معنى في تخصيص هؤلاء بالذكر؟
والجواب : أن تخصيصهم بالذكر لاعتياد التبسط بينهم ، فإنّ العادة في الأعم الأغلب أنّ الناس تطيب نفوسهم بأكل أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم من بيوتهم.
عن الحسن أنه دخل داره ، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون ، فتهلّلت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، يريد أكابر الصحابة.
وكذلك يقال في دخولهم هذه البيوت : لا بد فيه من إذن صريح أو قرينة.
ونسب إلى بعض أئمة الحنفية أنّه احتج بظاهر الآية على أنّه لا قطع في سرقة مال المحارم مطلقا ، لأنّها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم ، فلا يكون مالهم محرزا بالنسبة إليهم. وأنت تعلم أنّه لو سلّم أنّ ظاهر الآية يدلّ على إباحة دخول بيوت المحارم بغير إذن ، فهذا الظاهر غير مراد قطعا ، كما سبق على أنه يستلزم أنه لا قطع في سرقة مال الصديق ، ولم يقل بذلك أحد.
والإجابة بأنّ الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غير سديدة ، لأنّه في الظاهر صديق كما هو الفرض ، ولا عبرة بنيته وقصده ، فمال صديقه على هذا الرأي غير محرز بالنسبة إليه في ظاهر حاله ، والشرائع إنما تجري ما ظهر من الحال ، لا على ما بطن من المقاصد والسرائر.
وأما قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) فللمفسرين فيه رأيان :
الأول : أنّه كلام متصل بما قبله ، ومن تمامه ، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل