نفسه ؛ أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل ، فالجملة واقعة موقع الجواب عن سؤال نشأ مما قبلها ، كأنّه قيل : هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكروا خاصّ بما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت؟ فكان الجواب : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً).
والرأي الثاني : أنّه كلام منقطع عما قبله ، سيق لبيان حكم آخر مماثل لما بيّن من قبل ، وذلك أن قوما من العرب كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين ، وكان الرجل لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفّل ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، قال حاتم الطائي :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له |
|
أكيلا ، فإنّي لست آكله وحدي |
وكذلك كان ناس منهم يتحرّجون أن يأكلوا مجتمعين ، يخاف أحدهم إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه.
وكان آخرون إذا نزل بهم ضيف رأوا ألا يأكلوا إلا معه ، ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم ، وتعطيل مصالحهم ، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين ، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك ، وبيان أنّ أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد ؛ وتراعى فيه هذه الاعتبارات الدقيقة المعنتة.
وقد يقال : إنّ الآية حينئذ تسوّي بين أكل الرجل وحده وأكله مع غيره ، مع أن الذي استقرت عليه الشريعة أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة مستحسنة ، وأن تركه بغير داع مذمة. وفي الحديث : «شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده».
والجواب أنّ الحديث محمول على من اعتاد الأكل وحده ، والتزمه بخلا أن يشاركه أحد في طعامه. والآية تنفي الجناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا ، لا بخلا بالمشاركة ، ولا كراهة في القرى.
ووجه آخر : وهو أنّ الحديث يذمّ من أكل وحده بأنه آثم ، فهو لا يعارض الآية التي نفت الإثم عن الذي يأكل وحده.
(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) هذا بيان للأدب الذي ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل. وهذا الحكم وإن كان معلوما من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) إلا أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن يتوهّم من أنّ الأقارب والأصدقاء بينهم من المودة ولحمة القرابة ما لا يحتاج معه إلى تبادل السلام والتحية ، فكأنّ الآية تشير