وروي أنّ عثمان رضي الله عنه سأل الناس عن ذلك فقال له ابن عباس مثل ذلك ، وأنّ عثمان رجع إلى قول علي وابن عباس ، وحكى الجصاص (١) اتفاق أهل العلم على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر.
وذهب أبو حنيفة رحمهالله إلى أن مدة الرضاع المحرّم ثلاثون شهرا (٢). لقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وسنبينه إن شاء الله. ثم إنه رحمهالله يحمل الآية التي معنا على الكثير الغالب في الفطام ، إذ إنه لا يتجاوز به في العادة عامين ، ويقول في آية البقرة إنها لبيان المدة التي تستحق فيها المطلقة أجرا على الإرضاع ، إذ إنها لا تستحق أجرا فيما وراء العامين ، وذلك لا ينفي أن يكون ما بعد العامين إلى تمام الثلاثين شهرا من مدة الرضاع المحرّم.
وللحنفية في وجه الدلالة من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) على مذهب الإمام طريقتان :
الأولى : أنّه ذكر في الآية أمران متعاطفان أعقبا ببيان مدتهما ، فتكون هذه المدة لكلّ من الأمرين استقلالا على ما يشهد به كلام الفقهاء في مثل قول المقرّ : عليّ لكلّ من فلان وفلان مئة إلى سنة ؛ أنّ السنة أجل كلّ من الدينين ، فتكون الثلاثون شهرا مدة كل من الحمل والرضاع ، غير أنّه قد ثبت في الحمل ما أوجب نقصه من الثلاثين شهرا ، وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ، ولو بقدر فلكة مغزل ، ومثل هذا لا يقال بالرأي ، فله حكم الحديث المرفوع ، وإذا كان الأمر كذلك بقيت مدة الفصال على ظاهرها.
والطريقة الثانية : في معنى قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) هي أن ليس المراد بالحمل هنا حمل الجنين في البطن ، بل حمل الولد بعد الولادة في مدة الرضاع ، وحينئذ تكون المدة المضروبة في الآية إنما هي لشيء واحد ، هو ذلك الحمل الذي ينتهي بالفصال.
وأنت تعلم أن العلماء ومنهم أبو حنيفة متفقون فيما حكى الجصاص على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وأنهم استنبطوا ذلك من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ).
فتأويل الحنفية آية الأحقاف وحملهم لها على الوجهين المتقدمين ينافي ما اتفق عليه الفقهاء جميعا ويلزمهم حينئذ أحد أمرين : إما أن الإمام لم يوافق الجماعة في أنّ أقل
__________________
(١) في كتابه أحكام القرآن (٣ / ٣٥١).
(٢) الهداية شرح بداية المبتدي للإمام المرغيناني (١ ـ ٢ / ٢٤٣).