عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهنّ الغربان من أكسية سود يلبسنها.
ومعنى الآية : أنّ الله جلّ شأنه يأمر الحرائر إذا خرجن لحاجة أن يتقنّعن ويستترن ، حتى يميّزن من الإماء ، فلا يتعرّض لهنّ أحد بالإيذاء. هذه طريق الجمهور في تأويل الآية.
ومن المعروف أن هذه الآية نزلت بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب ستر العورة ، فلا بد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدا على ما يجب من ستر العورة ، ولذلك ترى عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها متحدة في أنّ المراد بالجلباب الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كلّه من فوق ثيابها ، كالملاءة المعروفة في عصرنا.
وعلى ذلك يكون الأمر بإدناء الجلابيب من الأدب الحسن ، زيادة في الاحتياط ، ومبالغة في التستر والاستعفاف ، وبعدا عن مظان التهمة والارتياب.
ولا يعدّ في إجراء الأمر على ظاهره من وجوب لبس الجلباب إذا كان خروج المرأة بدونه ـ وإن كانت مستورة العورة ـ مدعاة للفتنة ، وسببا في تعرّض الفساق لها ، وإيذائها بالرفث وفحش القول.
وقد يقال : إنّ تأويل الآية على هذا الوجه ، وقصرها على الحرائر ، قد يفهم منه أنّ الشارع أهمل أمر الإماء ، ولم يبال بما ينالهنّ من الإيذاء ، وتعرض الفسّاق لهن في الطرقات ، مع أنّ في ذلك من الفتنة ما فيه : فهلا كان ذلك التصون والتستر عامّا في جميع النساء؟
الجواب : أنّ الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن ، وترددهنّ في الأسواق ومحالّ البياعات في خدمة سادتهن ، وقضاء مصالحهم ، فإذا كلّفن أن يتقنّعن ، ويلبسن الجلباب السابغ كلّما خرجن ، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن ، وليس كذلك الحرائر ، فإنهنّ مأمورات بالاستقرار في البيوت ، وعدم الخروج منها إلا في أوقات الحاجة الشديدة ، فلم يكن عليهنّ من الحرج والمشقة في التقنّع والتستر ما على الإماء.
ولقد راعى الشارع هذه الحال ، فنهى الناس أن يؤذوا المؤمنين والمؤمنات جميعا ، سواء الحرائر والإماء ، وتوعّد المؤذين بالعذاب الأليم والعقاب الشديد.
ومع هذا فإنّ الشرع لم يحظر على الإماء التقنع والتستر ، ولكنّه لم يكلفهن ذلك دفعا للحرج والعسر. فللأمة أن تتقنع وتلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك. وأما نهي عمر رضي الله عنه الإماء في زمانه ، وزجره إياهنّ عن التقنع ، فإنما كان ذلك من السياسات الشرعية ، لأنّه كان يخشى إذا هنّ تشبهن بالحرائر في لباسهن وزيهنّ أن يعتدن الرقة ، ويضعفن عن الخدمة والعمل ، وتكثر مؤنهنّ على سادتهنّ.