للمصحف أمر يكاد يجمع عليه ، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم ، أو التعبد عند بعضهم ، وقد يكون الحكم مسلّما لا اعتراض عليه ، إنما الذي لا يسلّم هو أن يكون الحكم مأخوذا من هذه الآية ، فإنّك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة ، بل ويرجّح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وأنّ الضمير في (يمسه) راجع إليه ، وأنّه حتى على فرض أن الكتاب القرآن ، فليس هو المصحف ، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة ، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون ، ويراد من المس الإدراك ، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة ، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية : لا يجد طعمه إلا من آمن به.
وقد رجّح العلماء أنّ المراد من الكتاب الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)) [عبس : ١٣ ـ ١٦] والكتاب بهذا المعنى هو الذي يصحّ وصفه بأنه لا يمسه إلا المطهرون ، إذ هو بأيديهم ، وأما غيرهم فهم لا يمسونه ، لأنه ليس في متناولهم ، وقد ذكروا في ترجيح ذلك وجوها كثيرة.
منها أن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطين ، وأنّه في محل مضمون لا يصل إليه فيمسه إلّا المطهرون ، وأما الأخبثون من خلقه ، فلا يصلون إليه ، ويكون ذلك على حد قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)) [الشعراء : ٢١٠ ، ٢١١] أفرأيت كيف نفى الله ابتغاء مجيئهم به ، ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به ، وكذلك آية (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)) [عبس : ١] التي أسلفنا لك ذكرها.
ومن وجوه الترجيح : أنّ السورة مكية ، ومعلوم أنّ القرآن في مكة أكثر عنايته كان موجها إلى أصول الدين : من تقرير التوحيد ، والمعاد والنبوة. وأما الأحكام ، وبخاصّة ما يتعلق منها بمس الأشياء في تفاصيل جزئية فمردّه إلى المدني من السور.
ومن وجوه الترجيح : أن القرآن في أول نزوله لم يكن جمع في مصحف ، بل لم يكن تمّ نزولا حتى يكون الناس في حاجة إلى بيان حكم مس المصحف ، نعم إنه يحتمل أن يكون خبرا عما يكون.
ومن الوجوه أيضا : أنّ الله تعالى قال في وصف الكتاب : (مَكْنُونٍ) وذلك كناية عن الصون والستر عن الأعين ، لا تناله أيدي البشر. اسمع قول الكلبي في تفسير الآية ، قال : هو مكنون من الشياطين. وقال مجاهد : مكنون لا يصيبه تراب ولا غبار ، هل ترى أنّ المصحف لا يمسه غبار ، أم ذاك خبر عن شيء في السماء؟ قال أبو إسحاق : مصون في السماء.