وعلى الأول : فالمطهرون الملائكة ، وطهارتهم نزاهتهم عمّا في طبيعة الإنسان من الشهوة التي هي من مقتضيات المادة ، ونفي مسه إلا من هؤلاء يراد منه أنّه لا يطّلع عليه إلا هؤلاء.
وعلى الثاني : فالمراد من المطهرين يحتمل أن يكون الخالين عن الحدثين الأصغر والأكبر ، وتكون الطهارة مرادا منها الطهارة الشرعية. ويكون المعنى : لا يمس القرآن إلا من كان على طهارة من الحدثين. والنفي على معنى أنّه لا ينبغي ، كمثله في قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) [النور : ٣].
ويرى البعض فرارا من كون الجملة خبرية أنّ (لا) ناهية ، والضمة التي في (يمسه) ضمة اتباع ، لا ضمة إعراب ، وقد صرّح الفخر الرازي (١) بضعف هذا القول ؛ وإن روي عن ابن عطية. ومع كون الجملة صفة للقرآن فيحتمل أن يكون المراد من المطهرين الملائكة ، وهو مروي من عدّة طرق : فعن قتادة أنّه قال في الآية : ذاك عند ربّ العالمين ، لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة ، فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس ، وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه : أحسن ما سمعت في الآية : الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا المطهرون. أنّها بمنزلة الآية التي في عبس (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)) [عبس : ١١ ـ ١٦].
وقيل : الآية صفة القرآن حقا ، والمراد من المطهرين الخالون من الشرك ، والمراد من المس الطلب ، مثله في قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) [الجن : ٨] وقد عرفت أنّ المسّ بمعنى اللمس ، والمعنى : أن القرآن لا يطلبه للعمل به إلا المطهّرون من دنس الشرك.
وأما قوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)) فهو وصف آخر للقرآن الكريم ، والتنزيل بمعنى منزل أو يقال : وصف به لأنّ القرآن ينزل نجوما على خلاف سائر الكتب.
وقد أنهينا القول في تفسير الآيات ، وهنا أشياء لا بدّ أن نتعرض لها ، لأن بعضها من الأحكام التي أراد الفقهاء أن يأخذوها من الآية. وبعضها الآخر وعدناك به ، وهو ما يتعلّق بالقسم. ولنشرع في البعض الأول ، وهو ما يتعلّق بالأحكام.
قد رأيت أثناء التفسير أنّ من المفسرين من يريد إرجاع الضمير في (لا يَمَسُّهُ) إلى القرآن الكريم ، وأنّ من الآراء في (المطهرين) رأيا يقول : هم المطهرون من الناس ؛ وأنّ طهارتهم هي الطهارة الشرعية من الحدثين. على هذين الاعتبارين يقوم الاستدلال بعض الفقهاء بالآية على عدم مس المحدثين للمصحف ، وعدم مس المحدث
__________________
(١) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (٢٩ / ١٩٣).