(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع الصيام : أو لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ، كهرم ، ومرض لا يرجى زواله ، أو يطول زمانه ، أو لحوق مشقة شديدة لا تحتمل عادة ، فعليه إطعام ستين مسكينا.
أطلقت الآية إطعام المساكين ، ولم تقيده بقدر ولا تتابع ، فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك جاز ، وكان ممتثلا لأمر الله تعالى ، وهذا قول الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين ، وليس معنى هذا [أن] تمليك المساكين لا يجزئ ، بل المراد أنّ الآية أمرت بالإطعام الذي هو حقيقة في إعطاء الطعام ، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة ، فأيهما وقع من المكفر أجزأه.
وأوجب الشافعية تمليكهم ، قالوا : نحن لا ننكر أنّ الآية تحتمل التمليك والإباحة ، إلا أنّ السنة وردت بالتمليك ، وجرى عرف الشرع في الصدقة الواجبة أنّها مقدرة مشروط فيها التمليك ، فكما أنّ الزكاة وصدقة الفطر لا بدّ فيهما من التمليك ، كذلك الكفارة لا بدّ فيها من التمليك ، ولا تجزئ فيها الإباحة. وذلك لأن التمليك أدفع للحاجة ، فلا تقوم مقامه الإباحة.
ثم اختلفت المذاهب في المقدار الذي يملّك لكل مسكين. فقال الحنفية : يعطى لكل مسكين نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر ، ومستندهم في ذلك أخبار ذكرها صاحب «فتح القدير».
وقال الشافعية : لكل مسكين مدّ من غالب قوت محل المكفّر ، لأنّه صحّ في رواية عنه صلىاللهعليهوسلم تقدير الكفارة بستين مدا ، وصحّ في رواية أخرى تقديرها بستين صاعا ، والنسخ هنا متعذّر للجهل بالتاريخ ، ولإمكان الجمع بين الروايتين ، فكان ذلك الجمع متعينا ، فحملت رواية الستين صاعا على بيان الجواز الصادق بالندب.
ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان ، وقيل : مد وثلثا مد ، وقيل : ما يشبع من غير تحديد.
وظاهر قوله تعالى : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أنّه لا بدّ من استيفاء عدد الستين ، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد. هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه ، والثانية إن وجد غيره لم يجزئه ، وإن لم يجد غيره أجزأه. وهو ظاهر مذهبه. والثالثة : أنّ الواجب إطعام طعام ستين مسكينا ، ولو لواحد في ستين يوما ، وهو مذهب أبي حنيفة (١) رحمهالله ، قالوا : لأنّ المقصود سدّ خلة
__________________
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ٣٠١).