ومن العلماء من لا يجيز التخصيص بالمتأخر ، فلعلّ هذا القائل يلتزم الذهاب إلى قول الجبّائي ومن وافقه في جواز تخصيص العام بالمخصّص المتأخر ، وقد نسب إلى الزمخشري أنّ هذا ليس من باب التخصيص ، وإنما هو من بيان المجمل ، ذلك أنه يرى أنّ هذه الصيغ لا تفيد العموم من طريق الوضع ، بل هي من باب المطلق ، وتدلّ على العموم بالقرائن. وعلى هذا (فمن) التي في عقد الصلح كانت مجملة ، وجاءت الآية مبينة لها ، وليس هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل هو تأخيره لوقت الحاجة ، فإنّ الحاجة إليه إنما كانت عند مجيء المؤمنات مهاجرات ، وقد نزلت الآية عنده بيانا للإجمال الذي في العقد.
وقد ذهب جماعة إلى أنّ التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي ، بل كان اجتهادا منه صلىاللهعليهوسلم أثيب عليه بأجر واحد ، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد ، ومسألة اجتهاده صلىاللهعليهوسلم في الأحكام مسألة مختلف فيها ، ومن يجيزها يقول : ما دام أنه يجيء الوحي بعدم التقرير على الخطأ فلا ضير فيها ، وقد جاءت الآية بعدم التقرير على التعميم.
وذهب جماعة إلى أنّ العهد كان بوحي ، وجاءت الآية ناسخة ، ومن لا يجيز نسخ السنة بالكتاب يقول : نسخ العهد بالسنة ، وهي امتناعه صلىاللهعليهوسلم من الرد ، وجاءت الآية مقرّرة لهذا الامتناع.
ومن العلماء من يرى أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة ، وأنه كان يشتمل على نصّ خاص بالنساء ، صورته أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج ردّت على زوجها ما أنفق ، وللنبي صلىاللهعليهوسلم من العهد مثل ذلك ، وعلى هذا فالآية موافقة للعهد مقرّرة له.
وهذا هو الذي عليه المعوّل ، وأما الأقوال قبله فإنّها تنافي روح التشريع الإسلامي من جهة أنّ الوفاء بالعهد واجب ، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدّ بتخصيص نصوصه أو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني.
وأنت تعلم أنّ عهد الحديبية ما نسخ إلا بعد أن نقضته قريش ، ونكثوا أيمانهم ، يوضّح ذلك ما جاء في سورة التوبة : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)) [التوبة : ١٢ ، ١٣]. وما دام العهد قد نسخ فنسخه نسخ لما اشتمل عليه من الحكم.
ولنرجع إلى تفسير الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ).