يكون الاستفهام منشأ لأن يسأل فيقال : وما ينكر منه في التحريم وقد كان الأنبياء يحرّمون (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [آل عمران : ٩٣] فقيل في جواب هذا السؤال : (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) فكأنّ التحريم لم ينكر لذاته ، وإنّما لما اشتمل عليه من الحرص على مرضاة الأزواج ، ومثل النبيّ صلىاللهعليهوسلم أجلّ من أن يقدم على ما يقدم عليه ، ويمتنع عما يمتنع منه تبعا لإرضاء النساء.
(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إنّ النبي صلىاللهعليهوسلم لم يقارف ذنبا ، والذي كان منه إنما هو خلاف الأولى ، فالإتيان بالغفران والرحمة هنا تكريم للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، حيث جعل ما لا يعدّ ذنبا كأنه ذنب ، ولا يكون ذلك إلا لمن سمت منزلته.
وقد رأيت أنّا فسرنا التحريم هنا بالامتناع ، وامتناعه عن شرب العسل أو غيره إنما كان كامتناعه عن أكل الضب ، وهو بهذه المثابة لا شيء فيه ، وإنما عوتب من أجل أنّ الباعث كان الحرص على مرضاة الأزواج.
وقد أراد الزمخشريّ (١) أن يقول : بل هو قد قال : إنّ الذي وقع هنا هو أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم حرّم من عند نفسه ما أحل الله ، فيكون قد غيّر الحكم ابتغاء مرضاة الأزواج فآخذه الله به ، وأنكره عليه ، وغفر له ما وقع منه من الزلة ، وقد شنع العلماء على الزمخشري في قوله هذا.
وذلك أن تحريم الحلال ينتظم معنيين :
فقد يراد منه اعتقاد حكم التحريم فيما جعله الله حلالا ، وذلك تغيير لحكم الله ، وتبديل له على نحو الذي كان من الكفار من تحريمهم البحائر والسوائب والوصائل وغيرها ، وكقولهم : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١٣٨] وعلى نحو ما حكى الله عنهم في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النحل : ٣٥] وتحريم الحلال بهذا المعنى كفر لا يكون إلا من الكافرين.
والمعنى الثاني : الامتناع من الحلال امتناعا مطلقا ، أو مؤكّدا باليمين مع اعتقاد حل الفعل الذي امتنع منه ، وهذا شيء لا خطر فيه ، ولا شيء ، وقد امتنع النبيّ صلىاللهعليهوسلم من أكل الضب ، وقال : «إنّه لم يكن بأرض
__________________
(١) انظر كتاب الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (٤ / ٥٦٤).