فقد أبعد وقال غيره : الكنايات في قوله ويعزروه ويوقروه راجعة إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم وعندها تم الكلام فالوقف عليّ ويوقروه وقف تام ثم يبتدئ بقوله ويسبحوه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) على أن الكناية في ويسبحوه راجعة إلى الله تعالى يعني ويصلوا الله أو يسبحوا بالغداة والعشي.
قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) يعني إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا إنما يبايعون الله لأنهم باعوا أنفسهم من الله عزوجل بالجنة وأصل البيعة : العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام ، والوفاء بالعهد الذي التزمه له ، والمراد بهذه البيعة بيعة الرضوان بالحديبية ، وهي قرية ليست بكبيرة بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلتين سميت ببئر هناك. وقد جاء في الحديث أن الحديبية بئر. قال مالك : هي من الحرم. وقال ابن القصار : بعضها من الحل. ويجوز في الحديبية التخفيف والتشديد والتخفيف أفصح وعامة المحدثين يشددونها (ق) عن يزيد بن عبيدة ، قال : قالت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : على الموت (م) عن معقل بن يسار لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلىاللهعليهوسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا عن أغصانها من رأسه ونحن أربعة عشرة مائة قال : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر. قال العلماء : لا منافاة بين الحديثين ومعناهما صحيح بايعه جماعة منهم سلمة بن الأكوع على الموت فلا يزالون يقاتلون بين يديه حتى يقتلوا أو ينتصروا. وبايعه جماعة منهم معقل بن يسار على أن لا يفروا (خ). عن ابن عمر قال : إن الناس كانوا مع النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي صلىاللهعليهوسلم فقال يعني عمر : يا عبد الله انظر ما شأن الناس أحدقوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم فذهب فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع. وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال ابن عباس : يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم. وقال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيبايعونه ويد الله فوق أيديهم كذا نقله البغوي عنه. وقال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة. وقال الإمام فخر الدين الرازي : يد الله فوق أيديهم يحتمل وجوها ، وذلك لأن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد ، وإما أن تكون بمعنيين.
فإن قلنا إنها بمعنى واحد ففيه وجهان : أحدهما : يد الله بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم كما قال (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) وثانيهما : يد الله فوق أيديهم أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه ، يقال : اليد لفلان ، أي الغلبة والنصرة والقوة.
وإن قلنا : إنها بمعنيين ، فنقول : اليد في حق الله تعالى بمعنى الحفظ ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة ، فيكون المعنى : يد الله فوق أيديهم بالحفظ. وقال الزمخشري : لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدا على طريقة التخيل ، فقال : يد الله فوق أيديهم ، يريد أن يد رسول الله صلىاللهعليهوسلم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم كعقده مع الله عزوجل من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) هذا مذهب أهل التأويل وكلامهم في هذه الآية ومذهب السلف السكوت عن التأويل وإمرار آيات الصفات كما جاءت وتفسرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.
وقوله تعالى : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) يعني فمن نقض العقد الذي عقده مع النبي صلىاللهعليهوسلم ونكث البيعة فإن وبال ذلك وضره يرجع إليه ولا يضر إلا نفسه (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) يعني من البيعة (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) يعني في الآخرة وهو الجنة.
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ