لما بلغ الغاية في السرور وعلم أنه من الناجين بإعطاء كتابه بيمينه أحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا له ، وقيل يقول ذلك لأهله وأقربائه (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي عملت وأيقنت وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن في الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي في الآخرة والمعنى أني كنت في الدنيا أستيقن أني أحاسب في الآخرة (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي في حالة من العيش مرضية وذلك بأنه لقي الثواب وأمن من العقاب (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي ثمارها قريبة لمن يتناولها ينالها قائما وقاعدا ومضطجعا يقطفونها كيف شاؤوا (كُلُوا) أي يقال لهم كلوا (وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ) أي بما قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي الماضية يريد أيام الدنيا.
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤))
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) ، قيل تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها. وقيل تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) وذلك لما نظر في كتابه ورأى قبائح أعماله مثبتة عليه تمنى أنه لم يؤت كتابه لما حصل له من الخجل والافتضاح (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أي لم أدر أي شيء حسابي لأنه لا طائل ولا حاصل له وإنما كله عليه لا له (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) تمنى أنه لم يبعث للحساب والمعنى يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية عن كل ما بعدها والقاطعة للحياة أي ما أحيا بعدها قال قتادة تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره منه إليه أي من الموت في الدنيا لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمر مما ذاقه من الموت (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي لم يدفع عني يساري ومالي من العذاب شيئا (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وقيل ضلت عنه حجته حين شهدت عليه الجوارح بالشرك وقيل معناه زال عني ملكي وقوتي وتسلطي على الناس وبقيت ذليلا حقيرا فقيرا (خُذُوهُ) أي يقول الله تعالى لخزنة جهنم خذوه (فَغُلُّوهُ) أي أجمعوا يديه إلى عنقه (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي أدخلوه معظم النار لأنه كان يتعاظم في الدنيا (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة (ذَرْعُها) أي مقدارها والذرع التقدير بالذراع من اليد أو غيرها (سَبْعُونَ ذِراعاً) قال ابن عباس بذرع الملك. وقال نوف البكالي سبعون ذراعا كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان كل ذراع سبعون ذراعا ، وقال الحسن الله أعلم أي ذراع هو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لو أن رضاضة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت في رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
الرضاض : الحصباء الصغار ، وقوله مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة.
الجمجمة قدح من خشب وجمعه جماجم والجمجمة الرأس وهو أشرف الأعضاء وقال وهب لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها وقوله تعالى : (فَاسْلُكُوهُ) أي أدخلوه فيها قال ابن عباس تدخل في دبره وتخرج من منخره. وقيل تدخل في فيه وتخرج من دبره (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) أي لا يصدق بوحدانية الله وعظمته ، (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث نفسه على إطعام المسكين ولا يأمر أهله بذلك وفيه دليل على تعظيم الجرم في حرمان المساكين لأن الله تعالى عطفه على الكفر وجعله قرينه. قال الحسن في هذه