هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر ، ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود وروي عن عبد الله بن مسعود قال : «لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا».
الوجه الثاني : أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية ، والحقب الواحد متناه ، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها أي في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ، فهذا توقيت لأنواع العذاب الذي يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها.
الوجه الثالث : أن الآية منسوخة بقوله فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل. (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) قال ابن عباس : البرد النوم وقيل بردا أي روحا وراحة ، وقيل لا يذوقون بردا ينفعهم. (وَلا شَراباً) أي يغنيهم عن عطش (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) أي لكن يشربون حميما قيل هو الصفر المذاب ، وقيل هو الماء الحار الذي انتهى حره وغساقا قال ابن عباس الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده ، وقيل هو صديد أهل النار.
(جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧))
(جَزاءً وِفاقاً) أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ، وقيل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار. (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي لا يخافون أن يحاسبوا ، والمعنى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي التي جاءت بها الأنبياء ، وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنّبوة والبعث والحساب (كِذَّاباً) ، أي تكذيبا قال الفراء هي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال ، قال وقد سألني أعرابي منهم يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار يريد التقصير (وَكُلَّ شَيْءٍ) أي من الأعمال (أَحْصَيْناهُ) أي بيناه وأثبتناه (كِتاباً) أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ ، وقيل معناه وكل شيء علمناه علما لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل والمعنى أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر ، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقا (فَذُوقُوا) أي يقال لهم ذوقوا (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قيل هذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه.
قوله عزوجل : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي فوزا أي نجاة من العذاب ، وقيل فوزا بما طلبوه من نعيم الجنة ، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعا لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب ، وفازوا بما حصل لهم من النّعيم. ثم فسره فقال (حَدائِقَ) جمع حديقة وهي البستان المحوط فيه كل ما يشتهون (وَأَعْناباً) التنكير يدل على تعظيم ذلك العنب (وَكَواعِبَ) جمع كاعب يعني جواري نواهد قد تكعبت ثديهن (أَتْراباً) يعني مستويات في السن (وَكَأْساً دِهاقاً) قال ابن عباس : مملوءة مترعة ، وقيل متتابعة ، وقيل صافية (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي في الجنة ، وقيل في حالة شربهم لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل في حالة شربهم (لَغْواً) أي باطلا من الكلام (وَلا كِذَّاباً) أي تكذيبا والمعنى أنه لا يكذب بعضهم بعضا ولا ينطقون به (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء حسابا أي كافيا وافيا ، وقيل حسابا يعني كثيرا ، وقيل جزاء بقدر أعمالهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ