تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، أي أنهم كانوا يعدلون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغني فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار فيذكره ما كان يقول توبيخا ، وإلزاما قال الإمام فخر الدين : وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكور حكاية عنهم ، وقوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إخبار عن الواقع ، والمعنى أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وذكر وجوها أخر قال : والمختار هو الأول ثم فسر البينة فقال تعالى : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) أي تلك البينة رسول من الله (يَتْلُوا) أي يقرأ الرسول صلىاللهعليهوسلم (صُحُفاً) أي كتبا يريد ما تضمنه المصحف من المكتوب فيه وهو القرآن لأنه كان صلىاللهعليهوسلم يقرأ عن ظهر قلبه لا عن كتاب (مُطَهَّرَةً) أي من الباطل والكذب والزّور ، والمعنى أنها مطهرة من القبيح ، وقيل معنى مطهرة معظمة ، وقيل مطهرة أي لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون (فِيها) أي في الصحف (كُتُبٌ) أي الآيات المكتوبة وقيل الكتب بمعنى الأحكام (قَيِّمَةٌ) أي عادلة مستقيمة غير ذات عوج ، وقيل قيمة بمعنى قائمة مستقلة بالحجة من قولهم قام بالأمر إذا أجراه على وجهه ، ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) يعني جاءتهم البينة في كتبهم أنه نبي مرسل قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلىاللهعليهوسلم حتى بعثه الله تعالى فلما بعث تفرقوا في أمره ، واختلفوا فيه ، فآمن به بعضهم وكفر به آخرون ، ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال تعالى :
(وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))
(وَما أُمِرُوا) يعني هؤلاء الكفار (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي وما أمروا إلا أن يعبدوا الله قال ابن عباس : ما أمروا في التوراة ، والإنجيل ، إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الإخلاص عبارة عن النّية الخالصة ، وتجريدها عن شوائب الرّياء ، وهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه والنّية الخالصة لما كانت معتبرة. كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منويا فلا بد من اعتبار النية في جميع المأمورات ، قال أصحاب الشّافعي : الوضوء مأمور به ودلت هذه الآية على أن كل مأمور به يجب أن يكون منويا ، فتجب النية في الوضوء ، وقيل الإخلاص محله القلب وهو أن يأتي بالفعل لوجه الله تعالى مخلصا له ، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر حتى قالوا في ذلك لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة من النار مطلوبا ، وإن كان لا بد من ذلك بل يجعل العبد عبادته لمحض العبودية واعترافا لربه عزوجل بالرّبوبية ، وقيل في معنى مخلصين له الدّين مقرين له بالعبودية ، وقيل قاصدين بقلوبهم رضا الله تعالى بالعبادة (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ، ولا صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم» (حُنَفاءَ)