فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تعالى ولا على صفات ذاته مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا هو أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه وإذا حملنا الحديث على المنام وأن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال وحصل الغرض ولا حاجة بنا إلى التأويل.
ورؤية البارئ عزوجل في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه ، وإنما سماه مخاصمة لأنه ورد مورد سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه والله تعالى أعلم.
قوله عزوجل : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) أي آدم (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك على سبيل التشريف كبيت الله وناقة الله ولأن الروح جوهر شريف قدسي يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي تعظم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي توليت خلقه (أَسْتَكْبَرْتَ) أي تعظمت بنفسك عن السجود له (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله :
(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))
(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) يعني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه. ثم بين كونه خيرا منه فقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) والنار أشرف من الطين وأفضل منه وأخطأ إبليس في القياس لأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به والطين أصل كل ما هو نام ثابت كالإنسان والشجرة المثمرة ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل. وقيل : هب أن النار خير من الطين بخاصية فالطين خير منها وأفضل بخواص وذلك مثل رجل شريف نسيب لكنه عار عن كل فضيلة فإن نسبه يوجب رجحانه بوجه واحد ، ورجل ليس بنسيب ولكنه فاضل عالم فيكون أفضل من ذلك النسيب بدرجات كثيرة (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة وقيل من السماء. وقيل من الخلقة التي كان فيها وذلك لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة فغير الله تعالى خلقته فاسود وقبح بعد حسنه ونورانيته (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مطرود (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) فإن قلت إذا كان الرجم بمعنى الطرد وكذلك اللعنة لزم التكرار فما الفرق.
قلت الفرق أن يحمل الرجم على الطرد من الجنة أو السماء وتحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة فتكون أبلغ وحصل الفرق وزال التكرار.
فإن قلت كلمة إلى لانتهاء الغاية وقوله إلى يوم الدين يقتضي انقطاع اللعنة عنه عند مجيء يوم الدين.