ولقد حاول بعض العلماء القدماء ذلك فى تفاسيرهم ، ووصلوا فى كثير من الآيات إلى توجيه القارىء إلى الأسرار البلاغية ، ونحن نرى أن هذه محاولات ناجحة فى جملتها ، وفى كثير من آيات الكتاب ، ولكنا لا نحسب أنها وصلت إلى الغاية ، أو أنهم أدركوا النهاية ، فإن كتاب الله العزيز الحكيم لا تتناهى معانيه ، ولا يحاط بكل مغازيه ، وإن تلك المحاولات مفاتيح للنور ، ولكنها ليست النور.
* وإلى جانب الذين قالوا : إن القرآن مبين بذاته ، ولا يحتاج إلى من يبيّنه ويفسره .. هناك فئة أخرى ، ترى أن القرآن يتعبّد به ، ويتلى تلاوة ، ولا تتعرف معانيه إلا بتعريف من النبى ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذا ما ذكره القاضى عبد الجبار ـ فى كتابه (١) ـ واستدل على بطلانه ، يقول : «الذى قدمناه الآن يدل على فساد قولهم ، أى أننا لا نطلب دلالة القرآن ، لأنا قد بيّنا أنه يقع منه تعالى على وجه يدل على المراد ، كوقوعه من أحدنا إذا تكامل على شرط دلالته ، ألا يصح منه تعالى أن يخاطب به ، وهو موضوع لفائدة إلا وهو يريدها ، وإلا كان فى حكم العابث.
وقد ذكر شيخنا أبو هاشم ـ رحمهالله ـ أنه لو كان كذلك لوجب ألا تنفصل حاله ، وهم عرب بين أن يكون عربيا ، أو أعجميا ، لأنه إذا لم يكن معنى يستدل به عليه ، أو به وبغيره ، فلا فرق بين كونه على هاتين الصفتين ، وبين أن يكون الكلام من المخاطب بهذه الصفة ، أى أنه إذا لم يكن له دلالة فلا فرق بين أن يكون عربيا ، أو أعجميا من يقرؤه.
ثم يقول : ولا خلاف بين المسلمين ، أن القرآن يدل على الحلال والحرام ، والكتاب قد نطق بذلك ، لأنه تعالى قال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقال تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وقال تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ ..) إلى غير ذلك ، مما بيّن به أنه يفيد ، فكيف يصح مع ذلك ما قالوه؟
__________________
(١) المغنى ج ١٦ ص ٣٥٦