جمع مفتح ، وهو المفتاح ، وقيل : جمع مفتح وهو المخزن (١) ، والمراد علم جميع المغيبات كمجيء المطر ونزول العذاب وغيض الأرحام من ذكر وأنثى وما في غد والموت في أي مكان يقع وقيام الساعة ، قوله (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) نصب على الحال ، وعاملها الظرف الذي ارتفع به «مفاتح» ، أي حال كونه لا يعلم الطرق الموصلة إلى علم الغيب إلا هو ، فهو يعلم فتح المغيبات لكون المفاتح في يده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ، ويعلم فتحها وما في المخازن ، ثم قال توضيحا لذلك (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ) من النبات والحب والنوى (وَالْبَحْرِ) أي ويعلم ما في البحر من الدواب وغيرها (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) أي لا تسقط ورقة من الشجر إلا يعلم متى وقت سقوطها وأين مسقطها وعددها وأحوالها قبل السقوط وبعده (وَلا حَبَّةٍ) عطف على (وَرَقَةٍ) ، أي ولا تسقط حبة من الحبوب (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) أي في خبايا الأرض التي يخرج منها النبات (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) أي لا حي ولا ميت أو لا قليل ولا كثير ، عطف على (وَرَقَةٍ) على طريق الإدخال في حكمها ، كأنه قيل وما يسقط شيء من جميعها (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [٥٩] أي في علم الله أو في اللوح ، وهو كالتكرير لقوله (إِلَّا يَعْلَمُها).
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠))
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقبض أرواحكم (بِاللَّيْلِ) أي فيه إذا نمتم (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي كسبتم من خير وشر (بِالنَّهارِ) أي فيه من الآثام وغيرها (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) أي يوقظكم من النوم (فِيهِ) أي في النهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي ليتم أجلكم المعلوم عنده وهو مدة الحيوة (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم بعد الممات إلى موقف حسابه (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) أي يعلمكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٦٠] من خير وشر فيجازيكم به ، قيل : إذا نام الإنسان يخرج منه الذهن ، وهو بلسان الفارسية «روان» ولا يخرج روحه وإلا لمات (٢) ، وقيل : تخرج وتبقي الحيوة (٣) ، وقيل : النوم أمر لا يعرف حقيقته إلا الله (٤).
(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١))
ثم قال (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أي هو الغالب عليهم بالقدرة يتصرف فيهم كيف يشاء (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ) أيها الكفار (حَفَظَةً) أي ملائكة تحفظ أعمالكم بالكتابة ، وهم الكرام الكاتبون ، جمع الحافظ ، قيل : يرسل لكل إنسان ملكين بالليل وملكين بالنهار ، يكتب أحدهما الخير والآخر الشر ، ويكون أحدهما عند مشيه بين يديه والآخر خلفه ، ويكون أحدهما عن يمينه عند جلوسه والآخر عن شماله (٥) ، وفي إرسال الحفظة عليهم مع غناه بعلمه عن الكتابة لطف من الله تعالى لعباده ، لأنهم إذا علموا أن الملائكة يحفظون عليهم أعمالهم بكتابتها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد يوم القيامة كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد من السوء ، يعني يحفظ (٦) الملائكة عليهم أعمالهم (حَتَّى إِذا جاءَ) أي حضر (أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) عند انقضاء أجله (تَوَفَّتْهُ) أي قبضته ، وقرئ توفاه (٧) بلفظ التذكير بالإمالة ماضيا ومضارعا بمعنى تتوفاه ، أي تقبضه (٨)(رُسُلُنا) وهم ملك الموت وأعوانه ، قيل : إن الدنيا بين يدي ملك الموت كالمائدة الصغيرة يقبض من هنا وهنا ، فاذا كثرت عليه الأرواح يدعوها فتجيب (٩) ، وقيل : جعلت له الأرض مثل الطست يتناول من يتناوله وما من أهل بيت إلا يطوف عليهم
__________________
(١) أخذه عن الكشاف ، ٢ / ٧٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٣٦٧.
(٢) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٤٩٠.
(٣) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٤٩٠.
(٤) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٤٩٠.
(٥) وهذا مأخوذ عن السمرقندي ، ١ / ٤٩٠.
(٦) يحفظ ، ب م : تحفظ ، س.
(٧) «توفته» : قرأ حمزة وحده بألف ممالة بعد الفاء ، والباقون بتاء ساكنة مكان الألف. البدور الزاهرة ، ١٠٤.
(٨) تقبضه ، ب س : يقبضه ، م.
(٩) نقله عن البغوي ، ٢ / ٣٦٩ ـ ٣٧٠.