وكان يهوذا يأتيه الطعام (١) ، وجواب «لما» محذوف ، أي جعلوه في البئر بقرينة جملة (٢)(وَأَجْمَعُوا) ، وعطف عليه قوله (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي إلى يوسف في الصغر كما أوحي إلى يحيى وعيسى في صغرهما (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) أي لتخبرنهم يا يوسف فيما يستقبل (بِأَمْرِهِمْ هذا) أي بصنيعهم السوء الذي فعلوه بك بمصر ملكا وتجازيهم عليه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [١٥] أنك يوسف لعلو منزلتك وبعد عهدهم عنك إذا طلبوا منك الطعام من الجوع والقحط ، قيل : بعث الله إليه جبريل يؤنسه ويبشره بالخروج وغيره ويخبره بما أوحى إليه ربه في البئر (٣) ، وقال له : إذا هبت (٤) شيئا فقل يا صريخ المستصرخين ويا غياث المستغيثين ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري ، فلما قالها حفته الملائكة فآنس بهم ، وقيل : خرج من ساعته (٥) ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «ثم أنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف» (٦) ، ولم يشقوه.
(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))
(وَجاؤُ) أي إخوة يوسف وهم ظلمة (أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) [١٦] أي وقت المساء في ظلمة العشاء يصيحون كذبا بالكاء ليكون أحرى (٧) على الاعتذار بالكذب ، روى : أن يعقوب لما سمع صياحهم وعويلهم خرج فقال : يا بني ما لكم هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا ، قال : فما أصابكم وأين يوسف؟ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نترامي وننتضل (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي أقمشتنا وثيابنا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) كما قلت (٨)(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ) أي بمصدق (لَنا وَلَوْ كُنَّا) أي وإن كنا (صادِقِينَ) [١٧] عندك أن الذئب قد أكله لشدة حبك إياه ، فكيف وأنت تتهمنا به في هذا الأمر ، لأنك خفتنا في الابتداء أو لأنه لا دليل على صدقنا وإن كانا صادقين عند الله ، و (عَلى) بمعنى فوق في قوله (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) فيكون محل (عَلى قَمِيصِهِ) نصبا على الظرف ، ولا يجوز أن يكون حالا من «الدم» (٩) ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه ، أي جاؤا فوق قميصه بدم ذي كذب ، يعني بدم أثر في قميصه ظاهرا أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه ، لأنه دم السخلة لا دم يوسف ، فأخذه يعقوب وجعله على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بالدم (قالَ) ما كان هذا الذئب إلا حليما ، إذ لم يشق ثوبه ، كذبتم في قولكم (بَلْ سَوَّلَتْ) أي زينت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فضيعتم يوسف به (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فأمري أو فعلي صبر جميل ، وهو ما لا شكوى فيه إلى مخلوق (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) أي الذي اطلب منه العون على الصبر (عَلى ما تَصِفُونَ) [١٨] أي تقولون بالكذب من شأن يوسف.
(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩))
(وَجاءَتْ) بعد ثلاثة أيام (سَيَّارَةٌ) أي قافلة يسيرون من مصر إلى مدين أو بالعكس ، فأخطؤا الطريق فنزلوا بقرب من البئر التي فيها يوسف وكانت بعيدة من العمران ، قيل : «كان ماؤها مالحا فعذب حين ألقي فيه
__________________
(١) اختصره المصنف من البغوي ، ٣ / ٢٦٣ ؛ والكشاف ، ٣ / ٦٦. راجع في هذا الموضوع إلى تفسير قوله «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ، رقم الآية (١٠١) من سورة يوسف.
(٢) بقرينة جملة ، س م : بقرينة جملة ، ب.
(٣) اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٦٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٥٣ ، ١٥٤ ؛ والكشاف ، ٣ / ٦٦.
(٤) إذا هبت ، ب س : إذا وصلت ، م.
(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٦) انظر البغوي ، ٣ / ٢٦٣.
(٧) أحرى ، س م : أجرى ، ب.
(٨) كما قلت ، م : ـ ب س.
(٩) من الدم ، م : ـ ب س.