عبادته ويؤمنوا بالله الذي لا يجوز عليه الحدوث والتغير ، ويدل على أنه أراد به ذلك ، قوله (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غاب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [٧٦] أي الغائبين ، يعني لا أحب ربا يتغير عن حاله ويزول.
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧))
(فَلَمَّا رَأَى) بفتح الراء والهمزة وبامالتهما وبفتح الراء وإمالة الهمزة وبكسر الراء وفتح الهمزة وجعلهما بين بين (١) ، أي لما أبصر (الْقَمَرَ بازِغاً) أي طالعا أول طلوعه ، نصبه على الحال (قالَ هذا رَبِّي) لكون ضوئه أكثر من ضوء الكوكب (٢)(فَلَمَّا أَفَلَ) أي غاب (قالَ) تنبيها لقومه (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [٧٧] على أن من اتخذ القمر إلها وهو مثل الكوكب في التغير والانتقال فهو ضال ، فان الهداية إلى الحق ليست إلا بتوفيق الله وأسند الضلال إلى نفسه ليكون ذلك أدعى إلى هدايتهم.
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي طالعة (قالَ هذا) أي الطالع (رَبِّي) وهو من استعمال النصفة مع الخصم (هذا أَكْبَرُ) أي أعظم من الكوكب والقمر وأنور منهما ، لأنها ملأت كل شيء ضوءا (فَلَمَّا أَفَلَتْ) أي غربت وانتقلت (قالَ) لهم (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [٧٨] أي من الأحرام التي تجعلونها شركاء لخالقها ، فقالوا له من تعبد أنت يا إبراهيم؟ قال لهم (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي أخلصت ديني (لِلَّذِي فَطَرَ) أي خلق (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي للذي دلت هذه المحدثات على وحدانيته (حَنِيفاً) أي مسلما عادلا عن كل دين باطل (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [٧٩] مثلكم ، يعني لست على دينكم وسيرتكم ، وإنما احتج عليهم بالأفول في تلك الأجرام دون البزوغ ، لأن الاحتجاج بالأفول أظهر وأبين ، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاج.
(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠))
(وَحاجَّهُ) أي خاصمه (قَوْمُهُ) في دين الله حين عاب أصناهم (قالَ) إبراهيم تجهيلا لهم (أَتُحاجُّونِّي) مشددا ومخففا بحذف نون الوقاية (٣) ، أي أتجادلونني (٤)(فِي اللهِ) أي في دينه (وَقَدْ هَدانِ) أي أرشدني إلى توحيده ، ثم خوفوه أن تمسه أصنامهم بسوء ، فقالوا ما تخاف أن تخبلك آلهتنا فتهلك فقال (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي الذي تجعلونه شريكا لله في العبادة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) استئنافا من «ما» ، أي لا أخاف مما تعبدونه قط إلا في حال مشية الله بي شيئا من الإضلال أو من المكروه من جهته فأخاف من ذلك (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي ملأ علم ربي كل شيء سرا وعلانية ، يعني ليس بمستبعد من ربي أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهة معبوديكم (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) [٨٠] أي أتعاندون الحق ، فلا تتعظون فتميزوا بين المعبود القادر والمعبود العاجز وترجعوا عن الشرك.
(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١))
(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع لأحد بوجه (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) أي باشراكه (٥)(عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي برهانا وحجة لكم فيه ، فإن إشراككم بالله مما يتعلق به كل
__________________
(١) انظر في هذه القراءة ، البدور الزاهرة ، ١٠٧.
(٢) الكوكب ، ب م : الكواكب ، س.
(٣) «أتحاجوني» : قرأ المدنيان وابن ذكوان وهشام بخلف عنه بتخفيف النون ، والباقون بتشديدها ، وهو الوجه الثاني لهشام. البدور الزاهرة ، ١٠٥.
(٤) أي تجادلونني ، ب م : تجادلونني ، س.
(٥) أي باشراكه ، س : ـ ب م.