(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤))
(وَتَوَلَّى) أي أعرض (عَنْهُمْ) أي عن بنيه كراهة خبرهم (وَقالَ يا أَسَفى) أي يا حزنا (عَلى يُوسُفَ) والأسف أشد الحزن والحسرة ، والألف بدل من ياء الإضافة لتطويل الصوت بالتأسف ، وإنما تأسف على يوسف دون غيره من أخيه ، والثالث لأن كل نائبة حلت به بعد يوسف كانت دون نائبة نفسه (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي من البكاء الذي سببه الحزن ، لأن البكاء يمحق سواد العين ويقلبه إلى البياض ، قيل : قد عمي بصره (١) ، وقيل : كان يبصر يسيرا (٢)(فَهُوَ كَظِيمٌ) [٨٤] أي مكظوم ، من الكظم وهو شد السقاء على مليه ، والمراد أنه المملوء من الحزن الممسك عليه ، يعني كان يعقوب مملوء من الغيظ على أولاده ، ومع ذلك لا يظهر لهم ما يسوءهم ، قال قتادة : «يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا» (٣).
(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥))
(قالُوا) أي بنوه (تَاللهِ تَفْتَؤُا) أي لا تزال ، والأصل «لا تفتأ» ، حذفت منه «لا» مع إرادة النفي ، إذ لا يلتبس بالإثبات (٤) ، لأنه لو كان إثباتا للزم اللام أو النون أو كلاهما للقسم ، يعني لا تفتأ (٥)(تَذْكُرُ يُوسُفَ) وهو منصوب المحل على أنه خبر «لا تفتأ» لكونه من الأفعال الناقصة ، المعنى : أنك لا تزال تذكره من شدة حبه (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي قريبا من الموت أو فاسد العقل والجسم ذائبا من الهم والحزن ، والحرض مصدر وضع موضع الاسم ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) [٨٥] أي الميتين.
قيل : مكث يعقوب ثمانين سنة لم تجف دموعه من فراق يوسف ولم يخل الحزن عن قلبه يوما ، وما ساء ظنه بالله ساعة (٦) ، وإنما جازت لنبي الله تلك المبالغة في الجزع ، لأن الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند شدة الحزن لا بالقصد والاختيار.
(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦))
(قالَ) يعقوب عند ذلك لما رأى غلظتهم (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) أي همي الذي لا يصبر عنه فيفشي إلى أحد (وَحُزْنِي) أي همي اليسير (إِلَى اللهِ) لا إلى غيره ، يعني لا أشكوهما إليكم (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [٨٦] وهو أن يوسف حي وليس بميت.
قيل : إنما علم ذلك من تحقيق رؤيا يوسف (٧) ، وقيل : سأل ملك الموت في المنام هل قبضت روح قرة عيني يوسف؟ قال : لا أنه في الدنيا حي فسكن قلب يعقوب ، فطمع في رؤيته (٨).
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))
ثم قال يعقوب لهم (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا) إلى مصر (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ) من التحسس وهو طلب الشيء بالحاسة والتجسس بالجيم في معناه ، قيل : إنه بالحاء يستعمل في الخير وبالجيم في الشر (٩) ، أي اطلبوا الخبر منه (وَ) من (أَخِيهِ) بنيامين ، قالوا : أما بنيامين فلا نترك الجهد في شأنه ، وأما يوسف فانه ميت ونحن لا نطلب الأموات ، فقال لهم يعقوب (وَلا تَيْأَسُوا) أي لا تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي من رحمته (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ) أي لا يقنط (مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [٨٧] بنعمته.
قيل : إن سبب ابتلاء يعقوب بفراق يوسف أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور من ذبحه (١٠) ، وقيل :
__________________
(١) نقله المصنف عن الكشاف ، ٣ / ٩٠.
(٢) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٩٠.
(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٣١٥.
(٤) إذ لا يلتبس بالإثبات ، ب س : ـ م.
(٥) يعني لا تفتأ ، ب س : ـ م.
(٦) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ٣ / ٣١٥.
(٧) نقل المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.
(٨) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.
(٩) وهذا القول منقول عن البغوي ، ٣ / ٣١٩.
(١٠) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣١٧.