طبخه فقام مسكين ببابه فلم يطعمه (١) ، وروي : «أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب أتدري لما عاقبتك وحبست عنك يوسف أربعين أو ثمانين سنة؟ قال : لا يا إلهي ، قال : لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه» (٢).
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))
قوله (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) فيه إضمار ، تقديره : امتثلوا أمر أبيهم من تحسس (٣) يوسف وأخيه ، فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف ، فلما دخلوا عليه (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) وهو لغة مصر للملك (مَسَّنا) أي أصابنا (وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي الشدة والجوع (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي قليلة ردية كاسدة لا تؤخذ في الطعام وتؤخذ في غيره ، قالوا ذلك لأن الطعام كان عزيزا في ذلك اليوم ، فلا يؤخذ إلا الجيد ، قيل : «هو متاع الأعراب من الصوف والأقط» (٤) ، وقيل : الأدم والنعال (٥) ، وقيل : «دراهم زيوف» (٦)(فَأَوْفِ) أي أتمم (لَنَا الْكَيْلَ) كما كنت تعطينا بالثمن الجيد من قبل (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أي لا تنقص مما قلنا أو تفضل بنا بالصدقة أيضا ، وكانت حلالا للأنبياء في شريعتهم ، وقيل : «تصدق علينا برد أخينا بنيامين» (٧) وهو قاعد عنده (إِنَّ اللهَ يَجْزِي) أي يثيب (الْمُتَصَدِّقِينَ) [٨٨] ولم يقولوا يجزيك ، لأنهم ما علموا أنه مؤمن.
(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩))
(قالَ) يوسف (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) حين فرقتم بينهما وهو أخوه لأبيه وأمه وألقيتم يوسف في البئر ليموت ثم بعتموه وكنتم تؤذون أخيه بعد فقد يوسف بأنواع الأذى ، وهو لا يقدر أن يتكلم أحدا منهم إلا كلام الذليل للعزيز (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [٨٩] أي مذنبون عاصون أو جاهلون بجهل الشباب أو جاهلون فيما يؤول إليه أمر يوسف ، وروي : أنه أخرج كتابا فيه بيع يوسف ، فدفع إليهم ونظر فيه يهوذا فعرف خطه وقال نحن بعنا هذا الغلام وكان ملكنا إن كنا نرى الغنم ، فقال يوسف ظلمتم ، لأنكم بعتم الحر وأنا أعلم به ، فدعا يوسف السيافين وأمرهم بأن يقتلوهم جميعا ، فاستغاثوا كلهم ، وقالوا : إن لم ترحمنا فارحم الشيخ الضعيف ، فانه قد جزع على ولد واحد ، فكيف وقد يهلك أولاده كلهم؟ فقال : «هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون» ، ووصفهم ما فعلوا بهما ، وإنما قال هذا الكلام لهم لأنه لما سمع قولهم (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) الآية رق قلبه لهم (٨).
(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠))
ثم أشار تعالى إلى تعريف نفسه وتعظيم صنيعهم بالجهالة وتوبتهم وعفوه ، فلذلك (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) على التوهم أو هم عرفوه بشمائله حين كلمهم بذلك ، وقيل : «تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم» (٩) ، قرئ «إنك» بهمزة مكسورة على الخبر ، وبتحقيق الهمزتين ، وبتسهيل الهمزة الثانية مع فصل ألف بينهما (١٠)(قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) بنيامين وذكر أخيه لبيان ما سألوه عنه (قَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم
__________________
(١) وهذا مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٣١٧.
(٢) عن وهب ابن منبه ، انظر البغوي ، ٣ / ٣١٧.
(٣) تحسس ، س م : تجسس ، ب.
(٤) عن عبد الله بن الحارث ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.
(٥) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٢٠.
(٦) عن سعيد بن جبير ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٧٤.
(٧) عن ابن جريج والضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٠.
(٨) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٧٤ ـ ١٧٥.
(٩) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢١.
(١٠) «أئنك» : قرأ المكي وأبو جعفر بهمزة واحدة مكسورة على الإخبار والباقون بهمزتين : الأولى مفتوحة والثانية مكسورة علي الاستفهام وسهل الهمزة الثانية مع إدخال ألف الفصل قالون والبصري وسهلها من غير إدخال ورش ورويس ولهشام وجهان التحقيق مع الإدخال وتركه وللباقين التحقيق بلا إدخال. البدور الزاهرة ، ١٦٦.