(عَلَيْنا) بأن جمع بيننا بالصبر (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يَتَّقِ) الله بأداء الفرائض واجتناب المعاصي (وَيَصْبِرْ) عما حرم الله عليه من الزنا والقتل وغيرهما أو على العذوبة أو على الشدة والحبس (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [٩٠] أي الموصوفين بهذه الصفات ، ووضع المظهر موضع المضمر تنبيها على قدرهم عند الله.
(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))
(قالُوا) أي إخوة يوسف له معتذرين (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ) أي اختارك وفضلك (عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) [٩١] أي وما كنا في صنيعنا بك إلا مذنبين مجرمين يقال فلان خطأ إذا تعمد الذنب وأخطأ إذا لم يتعمد ، ولما اعترفوا بذنوبهم (قالَ) يوسف وكان حليما (لا تَثْرِيبَ) ولا لوم ولا تعيير (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم ، ف (الْيَوْمَ) ظرف ل (عَلَيْكُمُ) أو ل «التثريب» ، ثم دعا لهم بمغفرة ما فرط منهم بقوله (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فيما فعلتم من القبيح (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [٩٢] من غيره تعالى يرحم ويتجاوز عن ذنب من تاب إليه وأطاع أمره ، فلما عرف نفسه لهم سألهم عن أبيه قالوا : ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه ، وقال (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي يعد مبصرا كما كان أول خلقه أو يأت إلي بصيرا صحيحا ، قيل : هو قميص إبراهيم الذي ألبسه جبريل حين ألقي في النار فبردت عليه النار وكان من ثياب الجنة فصار إلى يعقوب بالتوارث فجعله يعقوب في عوذة ، وعلقه في عنقه وكان معه حين ألقي في البئر فنشره جبريل وألبسه في الجب بعد نزع إخوته قميصه عنه وكان القميص معه إلى ذلك الزمان فأرسله إلى أبيه ليبرأ من العمي ، لأن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي (١) ، ثم قال يوسف لإخوته (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) [٩٣] فاختلفوا فيما بينهم فقال كل واحد : أنا أذهب به ، فقال يوسف : ليذهب به الذي ذهب بقميصي الأول ، فقال يهوذا أنا ذهبت بالقميص الأول وأحزنته به فسأفرحه بهذا بأن أخبره بأنه حي صحيح سلم عليك وأمر لهم بالهدايا والدواب والرواحل فتوجهوا إلى كنعان.
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤))
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي خرجت القافلة من عمران مصر (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب بكنعان لولد ولده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) [٩٤] أي تسفهوني وتجهلوني لصدقتموني ، يقال فنده فلان إذا نسبه إلى الهرم وزوال العقل من الكبر ، قيل : «هي ريح القميص من مسيرة ثلاثة أيام» (٢) ، وقيل : «كان بينهما ثمانون فرسخا» (٣) ، وقيل : استأذنت الصبا ربها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير (٤).
(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧))
(قالُوا) أي أولاد أولاده (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [٩٥] أي لفي خطئك كما كنت في القديم من ذكر يوسف لا تنساه بمحبتك وتعتقد أنه حي تلقاه حديثا.
(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) أي المبشر عن يوسف وهو يهوذا ، قال ابن عباس : «حمل القميص يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخا» (٥)(أَلْقاهُ) أي طرح البشير أو يعقوب وضع القميص (عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ) أي رجع (بَصِيراً) بعد ما كان أعمى وعادت قوته بعد ضعفه وشبابه بعد هرمه وسروره بعد حزنه (قالَ) يعقوب لأولاد أولاده (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) يعني قوله إني لأجد
__________________
(١) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٢٣.
(٢) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٣.
(٣) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٣.
(٤) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٣٢٣.
(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٣٢٤.