وهو معنى قوله (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجع بصر الكفار إلى أنفسهم من شدة النظر ، فهي خاشعة قد شغلهم ما بين أيديهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) [٤٣] أي وقلوبهم خالية من كل خير كالهواء ما بين السماء والأرض ، ولذلك سمي ما بينهما هواء لخلوه ، وقيل : لا تعي شيئا ولا تعقل من الخوف (١) ، وقيل : «أفئدتهم مترددة في أجوافهم ليس لها مكان تستقر منه فيه» (٢).
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤))
ثم قال تعالى للنبي عليهالسلام (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) أي خوفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) نصب (٣) بأنه مفعول ثان ل (أَنْذِرِ) لا ظرف له ، وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا وتجاوزوا الحد في ذلك اليوم (رَبَّنا أَخِّرْنا) أي أمهلنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) لنرجع إلى الدنيا (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) إلى الإسلام والعمل الصالح (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما جاؤنا به فعند ذلك يجابون توبيخا على إنكارهم البعث الاستفهام بأن يقال لهم (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) أي حلفتم (مِنْ قَبْلُ) أي في دار الدنيا قبل هذا اليوم (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [٤٤] عن الدنيا إلى الآخرة لعدم إيمانكم بها وهو قوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ)(٤).
(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))
(وَسَكَنْتُمْ) أي قررتم في الدنيا واطمأننتم بطيبة النفوس (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والفساد كقوم نوح وعاد وثمود (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بالمشاهدة والإخبار (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) أي عرفتم (٥) عقوبتنا إياهم (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) [٤٥] أي بينا مثلكم كمثلهم ، يعني وصفنا لكم ما فعلوا وما فعل بهم كفعلكم وما ينزل بكم من العقوبة كعقوبتهم ، وذلك في الغرابة كالمثل السائر بين الناس.
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦))
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي صنعوا صنيعهم العظيم وهو تكذيب الرسل قبلكم (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي جزاء صنيعهم العظيم عنده محقق لا يخفى علمه عنه ، فيأتيهم به من حيث لا يشعرون (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ) بكسر اللام الأولى وهي لام كي ، وفتح الثانية ف (إِنْ) مخففة ، أي إنه كان مكرهم أو هي نافية ، ومعناه ما كان مكرهم لتزول (مِنْهُ الْجِبالُ) [٤٦] أي أمر محمد الذي هو ثابت كثبوت الجبال وبفتح الأولى ورفع الثانية ف (إِنْ) مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد (٦) ، ومعناه أنه كان مكرهم وإن عظم حتى بلغ بمحل يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد عليهالسلام ، فالمراد بيان تعظيم مكرهم وتغليب أمر محمد عليهالسلام على مكرهم بمحوه وقهرهم بنصر الله إياه عليهم.
(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧))
قوله (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) فيه تقديم وتأخير ، وهو أن المفعول الثاني قدم على الأول للإعلام بأنه لا يخلف وعده أبدا في نزول العذاب بكفار مكة سواء عجلوا به أو لم يعجلوا ، يعني ليس من شأنه إخلاف الوعد ، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وهو قوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا)(٧) ، تقديره : مخلف رسله وعده ، وإضافة (مُخْلِفَ) إلى ال «وعيد» من قبيل الاتساع (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) على أعدائه (ذُو انتِقامٍ) [٤٧] لأوليائه.
__________________
(١) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٨٧.
(٢) عن سعيد بن جبير ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٨٧.
(٣) نصب ، ب : أي به نصب ، س م.
(٤) النحل (١٦) ، ٣٨.
(٥) عرفتم ، ب س : عرفتهم ، م ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٨٨.
(٦) «لتزول» : قرأ الكسائي بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية. البدور الزاهرة ، ١٧٤.
(٧) غافر (٤٠) ، ٥١.