العقلاء ، قالت عائشة رضي الله عنها : «من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، فمن قال بذلك فليس من العقلاء ، فلا يلتفت إلى قوله» (١) ، والخلاف في رؤيته بالجارحة في الآخرة ولقد صح عن النبي عليهالسلام أنه : «سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون فيه» (٢) ، أي لا تشكون (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي الله يحيط بها لا يفوت منها شيء بخلاف الخلق ، لأنهم لا يبصرون ما يبصره ، لأنه يبصر أبصارهم وهم لا يبصرون أبصارهم (وَهُوَ اللَّطِيفُ) أي الخفي الذات عن أن يدركه بصر من اللطف ، وهو في الأصل الخفاء عن العيون أو دقة النظر في الأشياء (الْخَبِيرُ) [١٠٣] أي العليم بكل لطيف ، فالأبصار لا تخفى (٣) عن إدراكه.
(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤))
(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) هذا وارد منه على لسان النبي عليهالسلام ، جمع بصيرة ، وهي نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر (٤) ، أي قل لقومك قد جاءكم (٥) من الوحي آيات تدل على ما يجوز على الله وما لا يجوز وهي للقلوب كالبصائر ، يعني قد جاءكم حجج بينة (مِنْ رَبِّكُمْ) على صدقي في وصفه (فَمَنْ أَبْصَرَ) أي من عرفها وآمن بها (فَلِنَفْسِهِ) أي فاياها نفع (وَمَنْ عَمِيَ) عنها فلم يعرفها ولم يؤمن بها (فَعَلَيْها) أي فعلى نفسه ضر (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [١٠٤] أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم ، وهذا نسخ بآية السيف (٦).
(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥))
(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ) أي مثل ذلك بالبيان نبين (الْآياتِ) ليعتبروا بهذا البيان (وَلِيَقُولُوا) حسدا (دَرَسْتَ) أي قرأت وتعلمت القرآن من جبر ويسار وقرئ «دارست» ، أي قارأت أهل الكتاب بأن أعنتهم وأعانوك و (دَرَسْتَ) بفتح السين وسكون التاء (٧) ، أي قدمت هذه الآيات وعفت كأساطير الأولين لا اعتداء بها ، فاللام فيه مجاز لأجل التعليل ، لأن الآيات لم تصرف ليقولوا درست حقيقة ، فاللام فيه للعاقبة (٨) ، وفي قوله (وَلِنُبَيِّنَهُ) حقيقة للتعليل ، لأن الآيات صرفت للتبيين بسببه فسيق مساقه ، والضمير فيه عائد (٩) إلى الآيات لكونها في معنى القرآن ، أي نظهره (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [١٠٥] أي يفقهون الحق من الباطل فيسعد قوم ويشقي آخرون.
(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦))
ثم أمر نبيه عليهالسلام بأن يتبع القرآن ولا يجادلهم بقوله (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن واعمل بأمره ونهيه ، نزل حين دعوه إلى دين آبائه (١٠) ، ومحل (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نصب على الحال ، أي منفردا أو هو اعتراض لا محل له ، ورد تأكيدا لاتباع الوحي (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [١٠٦] أي لا تجادلهم فدعهم على ضلالتهم وشركهم.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))
(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) أي لجعلهم مؤمنين أو استأصلهم (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) عن الشرك فيوحدوا الله بالقسر (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [١٠٧] أي بمسلط لأن يوحدوا إن عليك إلا البلاغ.
__________________
(١) رواه مسلم ، الإيمان ، ٢٨٧.
(٢) أخرجه البخاري ، المواقيت ، ١٦ ، ٢٦ ؛ ومسلم ، المساجد ، ٢١١.
(٣) لا تخفي ، ب س : لا يخفي ، م.
(٤) تبصر ، ب م : يبصر ، س.
(٥) أي قل لقومك قد جاءكم ، ب س : ـ م.
(٦) أخذ المصنف هذا الرأي عن القرطبي ، ٧ / ٥٨ ؛ وانظر أيضا ابن الجوزي ، ٣٢.
(٧) «درست» : قرأ المكي والبصري بألف بعد الدال وسكون السين وفتح التاء ، وقرأ ابن عامر ويعقوب بغير ألف مع فتح السين وسكون التاء ، والباقون بغير ألف ، وإسكان السين وفتح التاء. البدور الزاهرة ، ١٠٨.
(٨) فاللام فيه للعاقبة ، م : وهي لام العاقبة ، ب س.
(٩) عائد ، س : ـ ب م.
(١٠) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ٥٠٦.