ما شاءَ اللهُ) استثناء من الزمان ، أي خالدين في كل زمان إلا قدر ما بين النفختين أو من المكان ، أي خالدين في كل مكان إلا ما شاء الله نقلهم منه إلى غيره في النار أو هم مخصوصون من أهل الإيمان فيخرجون (١) من النار ، ف (ما) في (ما شاءَ اللهُ) بمعنى من (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في أمره (عَلِيمٌ) [١٢٨] بخلقه.
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩))
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي) أي مثل ذلك التولية نسلط (بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) بأعمالهم الخبيثة فنهلكهم أو نذلهم ، وهذا كلام لتهديد الظالم كي يمتنع عن ظلمه ، لأنه لو لم يمتنع عنه لسلط الله (٢) عليه ظالما آخر فيعذبه به (٣) ، قال ابن عباس : «إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم ، وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم» (٤)(بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [١٢٩] من المعاصي.
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠))
ثم قال تعالى توبيخا لهم بالاستفهام (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ) أي يقرؤن (عَلَيْكُمْ آياتِي) أي آيات القرآن النازل مني (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي ويخوفونكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) بالبعث ، قيل : «بعث الله رسولا من الجن إلى الجن ومن الإنس إلى الإنس» (٥) لظاهر الآية ، وقيل :» لم يجئ الرسول إلا من الإنس وجاء من الجن نذر يبلغونهم ما يسمعون من الأنبياء» (٦) ، فالخطاب في الآية للإنس خاصة وإن تناولهما اللفظ كما في قوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)(٧) وإن أخرج من الملح وحده ، قال ابن عباس : «كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا عليهالسلام بعث إلى الجن والإنس» (٨)(قالُوا) جوابا للاستفهام واعترافا (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا وكفرنا بهم ، قيل : قوله «والله ربنا ما كنا مشركين» (٩) يناقض هذا الإقرار ، أجيب بأنه تعترف ألسنتهم في موطن ، وتنكر وتخرس في موطن آخر أو تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون (١٠) ، فقال تعالى مخبرا عن حالهم في الدنيا والآخرة (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) من زينتها فلم يؤمنوا (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) يوم القيامة (١١)(أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) [١٣٠] في الدنيا ، وإنما كررت الشهادة ، لأن الأولى حكاية لقولهم والثانية تخطئة ومذمة لهم أو الأولى إخبار عن التبليغ والثانية إخبار عن الكفر.
(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١))
قوله (ذلِكَ) مبتدأ ، وخبره (أَنْ لَمْ يَكُنْ) بتقدير اللام الجارة المحذوفة من «أن» المصدرية أو «أن» مخففة بتقدير ضمير الشأن ، أي إرسال الرسل إلى الجن والإنس ثابت لأن لم يكن (رَبُّكَ) أو لأن الشأن والحديث لم يكن ربك (مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) وهو حال من (رَبُّكَ) ، أي حال كونه ظالما ، والباء للملابسة ، يعني لا يهلك قرية من القرى بغير ذنب (وَأَهْلُها غافِلُونَ) [١٣١] عن الإنذار بالرسل ، لأن الذنب لا يوجد إلا بعد الأمر والنهي ، وهما لا يوجدان إلا بارسال الرسل إثباتا للحجة عليهم ، ومحل الجملة نصب على الحال.
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))
(وَلِكُلٍّ) أي لكل واحد من العاملين حسنة أو سيئة (دَرَجاتٌ) جزاء (مِمَّا عَمِلُوا) من الثواب والعقاب بعضهم
__________________
(١) فيخرجون ، ب س : فتخرجون ، م.
(٢) لسلط الله ، ب م : نسلط ، س.
(٣) فيعذبه به ، ب م : ـ س.
(٤) انظر البغوي ، ١ / ٤١٩.
(٥) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ١ / ٥١٤.
(٦) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٢ / ٤٢٠.
(٧) الرحمن (٥٥) ، ٢٢.
(٨) انظر السمرقندي ، ١ / ٥١٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٤٢٠ (عن الكلبي).
(٩) الأنعام (٦) : ٢٣.
(١٠) نقله المصنف عن الكشاف ، ٢ / ٨٨.
(١١) يوم القيامة ، ب س : ـ م.