يوسف أن يحفظ بصره من البكاء لأجله ، وأمّا داود فقد كان يبكى للّه ، وفي قدرة اللّه ـ سبحانه ـ ما يحفظ بصر الباكي لأجله.
سمعت الأستاذ أبا على الدقاق ـ رحمه اللّه ـ يقول ذلك ، وقال رحمه اللّه : إن يعقوب بكى لأجل مخلوق فذهب بصره ، وداود بكى لأجل اللّه فبقى بصره.
وسمعته ـ رحمه اللّه ـ يقول : لم يقل اللّه : «عمى يعقوب» ولكن قال : «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ» ، لأنه لم يكن في الحقيقة عمى ، وإنما كان حجابا عن رؤية غير يوسف (١).
ويقال كان ذهاب بصر يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف ، لأنه لا شئ أشدّ على الأحباب من رؤية غير المحبوب في حال فراقه ، وفي معناه أنشدوا :
لما تيقّنت أنى لست أبصركم |
|
أغمضت عيني فلم أنظر إلى أحد |
وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق رحمه اللّه يقول : كان يعقوب عليه السلام يتسلّى برؤية بنيامين في حال غيبة يوسف ، فلما بقي عن رؤيته قال : «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» أي أنه لما منع من النظر كان يتسلى بالأثر ، فلمّا بقي عن النظر قال : يا أسفا على يوسف.
قوله جل ذكره : (قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥))
هددوه بأن يصير حرضا ـ أي مريضا مشرفا على الهلاك ـ وقد كان ، وخوفّوه مما لم يبال أن يصيبه حيث قالوا «أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ».
ويقال أطيب الأشياء في الهلاك ما كان في حكم الهوى ـ فكيف يخوّف بالهلاك من كان أحبّ الأشياء إليه الهلاك؟
قوله جل ذكره : (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦))
شكا إلى اللّه ولم يشك من اللّه ، ومن شكا إلى اللّه وصل ، ومن شكا من اللّه انفصل.
__________________
(١) هذا نموذج من التذوق للنص القرآني لا يفطن إليه إلا أرباب الذوق الصوفي.