يبق من يزاحمه ، وكان كل من اجتمع به يخضع له لكثرة استحضاره ، حتى يكاد يقطع بأنه يحفظ الفقه سردا من أول الأبواب إلى آخرها ، لا يخفى عليه منه كبير أمر ، وكان مع ذلك لا يحبّ أن يدرّس إلا بعد المطالعة. ثم يستطرد قائلا : واشتهر اسمه في الآفاق ، وبعد صيته ، إلى أن صار يضرب به المثل في العلم ، ولا تركن النفس إلا إلى فتواه ، وكان موفقا في الفتوى ، يجلس لها من بعد صلاة العصر إلى الغروب ، ويكتب عليها من رأس القلم غالبا ، ولا يأنف إذا أشكل عليه شيء من مراجعة الكتب ، ولا من تأخير الفتوى عنده إلى أن يحقق أمرها ، وكان فيه من قوّة الحافظة وشدّة الذكاء ما لم يشاهد فيه مثله ، وكان وقورا حليما ، مهيبا سريع البادرة ، سريع الرجوع ، ذا همة عالية في مساعدة أصحابه ، وأتباعه ، وقد أفتى ودرس وهو شاب ، وناظر الأكابر ، وظهرت فضائله ، وبهرت فوائده ، وطار في الآفاق صيته ، وانتهت إليه الرئاسة في الفقه ، والمشاركة في غيره حتى كان لا يجتمع به أحد من العلماء إلا ويعترف بفضله ، ووفور علمه ، وحدّة ذهنه ، وكان معظما عند الأكابر ، عظيم السمعة عند العوام ، إذا ذكر خضعت له الرقاب ، حتى كان « الاسنوي » مع جلالة قدره يتوقّى الإفتاء مهابة له ، وكانت آلة الاجتهاد فيه كاملة ، وكان عظيم المروءة ، جميل المودّة ، كثير الاحتمال ، مهيبا مع كثرة المباسطة لأصحابه ، والشفقة عليهم ، والتنويه بذكرهم » (١).
وقال « الصلاح الأقفهسي » : كان « عمر بن رسلان » أحفظ الناس لمذهب الشافعي ، لا سيما لنصوصه ، مع معرفة تامة بالتفسير ، والحديث والأصول ، والعربية ، مع الذهن السليم ، والذكاء الذي على كبر السنّ لا يتغيّر ، يفزع إليه في حلّ المشكلات فيحلّها ، ويقصد لكشف المعضلات فيكشفها ولا يملّها ، ولو لا أن نوع الإنسان مجبول على النسيان لكان معدوما فيه ، فلم يكن في عصره في الحفظ وقلة النسيان من يماثله بل ولا يدانيه ، ولي قضاء دمشق ،
__________________
(١) انظر الضوء اللامع ج ٥ ، ص ٨٧ ـ ٨٨.