فكل هذه المعاني ـ كما رأيت ـ قد اشتملت على الإرادة المجازية وهو كاف للاستدلال على أصالة الاستعمال المجازي في القرآن.
« ومن قدح في المجاز ، وهم أن يصفه بغير الصدق ، فقد خبط خبطا عظيما ، ويهدف لما لا يخفى » (١).
فهناك من أنكر المجاز في القرآن ، وهناك من حمل جملة من الاستعمال الحقيقي على المجاز ، وكلاهما قد تجاوز القصد ، وجانب الاعتدال في المذهب.
وقد ناقش عبد القاهر الجرجاني ( ت : ٤٧١ هـ ) هؤلاء وهؤلاء : « وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى ، وهم المنكرون للمجاز : إن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها ، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها ، كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها ، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم ، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع.
وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى ، أن تعلم أنه عزّ وجلّ لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدىً وشفاء ، ونورا وضياء ، وحياة تحيا بها القلوب ، وروحا تنشرح عنه الصدور ، ما هو عند القوم الذي خوطبوا به خلاف البيان ، وفي حد الإغلاق ، والبعد عن التبيان ، وأنه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية ، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء ، والمحاجي من الناس ، كيف وقد وصفوه بأنه : ( عربيٌ مبين )(٢) (٣).
وعبد القادر في هذا يشير الى الخلاف التقليدي في هذه المسألة ، أهي واردة أم هي منتفية؟ كقضية لها بعدها الكلامي عند المتكلمين ، فلقد رفض أهل الظاهر استعمال صيغ المجاز في القرآن ، ووافقهم على هذا بعض الشافعية ، وقسم من المالكية ، وأبو مسلم الأصبهاني من المعتزلة (٤).
__________________
(١) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : ٣٦١.
(٢) النحل : ١٠٣.
(٣) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : ٣٦٣.
(٤) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ٢/٢٥٥.