وهنا نتأكّد أصالة النهج الوضوئي وأحقّيّته ، ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون ابن عمر رجع وقال بالمسح على الخفين أم لم يرجع ، وإن ذلك ليرجع إلى الظروف التي كان يعيشها ؛ إذ عرف عنه عدم استقراره في مواقفه السياسية ، لأنّه قد صار في أواخر عمره تبعا للسلطات الأموية.
لكنّ الحقّ أنّ نهج التعبّد المحض والتحديث أخذ ينشط ويعمل بكلّ دأب وجدًّ في زمن خلافة علي بن أبي طالب ، لذلك نرى كتاب الإمام علي إلى محمد بن أبي بكر ـ واليه على مصر (١) ـ وسائر مواقفه الوضوئية والفقهية الأخرى ، تؤكّد على كثير من الأحكام الشرعية التي كانت من البداهة بمكان ، ومن جملتها الوضوء الثنائي المسحي ، والصلاة وغيرها من بديهيات الأحكام الشرعية ، وعليٌّ هو رائد مدرسة التعبّد والدعوة لفتح باب التدوين والتحديث.
نعم ، جَدّ الإمام عليّ ليمحو الآثار الّتي خلّفتها الحكومات التي سبقته ، بسبب اجتهاداتها المتكررة ، فراح يؤكّد على ضرورة اتّباع نهج التعبد ، واتّباع خطى رسول الله صلىاللهعليهوآله في أحكامه وأفعاله.
فالوضوء إذن ، لا يمكن تفكيكه عن مسألة التحديث والتدوين ، ولا مسألة الاجتهاد والتعبد بحالٍ من الأحوال ، لأنّ روّاد التعبد المحض هم رواد الوضوء الثنائي المسحي ، ورواد الاجتهاد ـ في زمن عثمان وما بعده ـ هم رواد الوضوء الثلاثي الغسلي ، ولا ننسى أنّ عثمان بن عفان كان قد صرّح بكون معارضيه في الوضوء هم من المحدّثين عن رسول الله ؛ لقوله : « إن ناساً يتحدثون عن رسول الله ! ... ».
______________________________
(١) انظر ذلك في الغارات للثقفي ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٤ ، وشرح نهج البلاغة ٦ : ٧٣.