فإن مقتضى الحياة الأرضية وعناية الله بهداية عباده أن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالإنسان عائشين في الأرض لنزل الله إلى بعضهم وهو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه.
وهذا كما ترى يعطي أولا : معنى الرسالة البشرية وهو أن الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله.
ويشير ثانيا : إلى برهان الرسالة أن حياة الإنسان الأرضية والعناية الربانية متعلقة بهداية عباده وإيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم ، والملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الأرض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك وهو رسالته ، والذي يشاهده ويتلقى ما ينزل به ـ ولا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية وروح من أمر الله ـ هو الرسول البشري.
وكان المترقب من السياق أن يقال : « لبعث الله فيهم ملكا رسولا » بحذاء قولهم المحكي في الآية السابقة : « أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً » لكنه عدل إلى مثل قوله : « لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً » ليكون أولا أحسم للشبهة وأقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية والبوذية والصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس ويعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح ونزول الإله إلى الأرض وظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي وكان بوذه ويوذاسف ـ على ما يقال ـ منهم والمعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الإنسان المستغرق فيه دون الله سبحانه.
وإنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك وهو من الآلهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده وهو إله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الأرضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم.
وليكون ثانيا إشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الإنسان غير أن الذي يصلح لتلقي الوحي منه هو الرسول منهم ، وأما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام وإن كان المستفيض خاصا قال تعالى : « وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » أسرى : ٢٠ ، وقال : « قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ