كان في العمر مرّة واحدة ، وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال شبيها بمخادع نفسه ، غافل لاه عمّا أعدّ الله للساجدين من أنس العاجل ، وراحة الآجل ، ولا بعد عن الله أبدا من أحسن تقرّبه في السجود ، ولا قرب إليه أبدا من أساء أدبه ، وضيّع حرمته بتعلّق قلبه بسواه في حال سجوده ، فاسجد سجود متواضع لله ذليل علم أنّه خلق من تراب يطأ الخلق ، وأنّه ركّب من نطفة يستقذرها كلّ أحد ، وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسرّ والروح ، فمن قرب منه بعد من غيره ، ألا ترى في الظاهر أنّه لا يستوي حال السجود إلّا بالتواري عن جميع الأشياء ، والاحتجاب عن كلّ ما تراه العيون ، كذلك أمر بالباطن ، فمن كان قلبه متعلّقا في صلاته بشيء دون الله فهو قريب من ذلك الشيء ، بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته ، قال الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (١).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : قال الله لا أطّلع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعة وجهي ، وابتغاء مرضاتي ، إلّا تولّيت تقويمه وسياسته ، ومن اشتغل بغيري في صلاته فهو من المستهزئين بنفسه ، مكتوب اسمه في ديوان الخاسرين (٢).
الثالث : قال بعض الصوفيّة : ركوع العبد عبارة عن فنائه فناء جزئيّا ، وهو انعدام وجود العبد بواسطة استيلاء نور الحقّ في قلبه ، مع شعوره بذلك. وسجوده عبارة عن فنائه فناء كلّيّا ، وهو الانعدام مع انتفاء الشعور من كثرة
__________________
(١) الأحزاب : ٤.
(٢) مصباح الشريعة : ٩١.