شكره قليل الشكر لاغتراره برحمة ربّه ، ولكنّه في حالة كفرانه كثير الكفران مبالغ في ذلك لغلبة جنود نفسه على جنود عقله ، وإن ذلك إلّا لكمال جهله وغفلته واغتراره باللذّة الفانية ؛ كما قال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ...) (١) إلى آخره.
وقال : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٢) أي : كثير الظلم على نفسه بالكفران ، وكثير الجهل بمقام الإيمان.
وقد خطر بالبال في ذلك الحال سرّ آخر للمقابلة في المقال ، وهو أنّ القليل من الكفران كثير في مقام الحقّ ، فإنّ في ذلك تجرّؤ العبد الذليل اللاشي على المولى الجليل القهّار ، وهذا أمر عظيم غاية العظم كما لا يخفى.
وأمّا الشكر وإن كثر من العبد فقليل بالنسبة إلى الحقّ تعالى ، كيف ونعماؤه تعالى على عباده بمرتبة لا يمكن لأحد منهم أن يستقصي شكر القليل منها ، فضلا عن الكثير ، كيف ونعماؤه علينا أكثر ممّا يتصوّره كلّ متصوّر ، ويتوهّمه كلّ متوهّم ؛ كما قال عليه السلام الحمد لله الّذي له في كلّ نفس من الأنفاس ، وخطرة من الخطرات منّا منه منن لا تحصى ، وفي كلّ لحظة من اللحظات نعم لا تنسى ، وفي كلّ حال من الحالات عائدة لا تخفى ... (٣) إلى آخره.
فكيف يمكن لنا شكر الحقّ على نعمائه الّتي أنعم بها علينا. كيف ولو اجتمع كلّ ما في الأرض والسماء لشكر نعمة حقيرة منه لما قدروا عليه ،
__________________
(١) الإسراء : ٨٣ ، فصّلت : ٥١.
(٢) الأحزاب : ٧٢.
(٣) البلد الأمين : ١٣٥.