والآخرون اعتقدوا أن هاهنا سعادة وكمالا ، يصل إليه الانسان بعد موته وفي الحياة الأخرى؛ فان هاهنا فضائل وأفعالا فاضلة في الحقيقة يفعلها لينال بها السعادة بعد الموت. ونظروا ، فإذا ما يشاهدون في الموجودات الطبيعية لا يمكن أن ينكروا ويجحدوا؛ وظنّوا أنهم إن سلموا أن جميعها طبيعي على ما هو مشاهد ، أوجب ذلك ما ظنه أهل الجاهلة. فرأوا لذلك أن يقولوا إن للموجودات الطبيعية المشاهدة على هذه الحال ، وجودا آخر غير الوجود المشاهد اليوم ، وإن هذا الوجود الذي لها اليوم غير طبيعي لها بل هي مضادة لذلك الوجود الذي هو الوجود الطبيعي لها. وإنه ينبغي أن يقصد بالارادة ، ويعمل في إبطال هذا الوجود ليحصل ذلك الوجود الذي هو الكمال الطبيعي ، لأن هذا الوجود هو العائق عن الكمال؛ فإذا بطل هذا ، حصل بعد بطلانه الكمال (١).
وآخرون يرون أن وجود الموجودات حاصل لها اليوم ، ولكن اقترنت إليها واختلطت بها أشياء أخر ، أفسدتها وعاقتها عن أفعالها ، وجعلت كثيرا منها على غير صورتها ، حتى ظنّ مثلا بما ليس بانسان أنه انسان ، وبما هو انسان أنه ليس بانسان ، وبما هو فعل الانسان أنه ليس بفعل له ، وبما ليس بفعل له أنه فعل له ، حتى صار الانسان في هذا الوقت لا يعقل ما شأنه أن يعقل ، ويعقل ما ليس شأنه أن يعقل. ويرى في أشياء كثيرة أنها صادقة وليست كذلك ، ويرى في أشياء كثيرة أنها محالة من غير أن تكون كذلك.
_________________
١) السعادة لا تنال في هذه الحياة الدنيا وانما تتحقق بعد الموت أو في وجود آخر ، ولذا ينبغي التخلص من هذا الوجود الدنيوي.