وعلى أية حال ، فإن هذا الملك المنكر المتعنت ، إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر ، هذا السبب هو «أن آتاه الله الملك» ، وجعل في يده السلطان (١) ، أو كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده : إن الذي حمله على هذه المحاجة هو إيتاء الله تعالى الملك له ، فكان منشأ إسرافه في غروره ، وسبب كبريائه وإعجابه بقدرته (٢) ، مع أن المفروض أن يشكر ويعترف بنعمة الله عليه ، لو لا أن الملك يطغى ويبطر من لا يقدرون نعمة الله ، ولا يدركون مصدر الإنعام ، ومن ثم يصنعون الكفر في موضع الشكر ، ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا مهتدين ، فهم حاكمون لأن الله حكّمهم ، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم ، فهم كالناس عبيد الله ، يتلقون مثلهم الشريعة من الله ، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع ، فهم خلفاء لا أصلاء ، ومن ثم يعجب الله من أمره ، وهو يعرضه على نبيه (٣).
هذا ويروي المفسرون في سبب هذه المحاجة روايتين ، إحداهما : أنهم خرجوا إلى عيد لهم ، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا قال لهم : أتعبدون ما تنحتون ، فقال : فمن تعبد ، قال : أعبد ربي الذي يحيي ويميت ، وقال بعضهم أن نمرود كان يحتكر الطعام ، فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فدخل إبراهيم فلم يسجد له ، فقال : ما لك لا تسجد لي ، قال : أنا لا أسجد إلا لربي ، فقال له نمرود : من ربك ، قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، وذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر الناس بالميرة ، فكلما جاء قوم يقول : من ربكم وإلهكم ، فيقولون أنت ، فيقول : ميروهم ، وجاء إبراهيم عليهالسلام
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ / ٢٩٧.
(٢) تفسير المنار ١١ / ٣٩ ، وانظر : تفسير النسفي ١ / ١٣٠ ، صفوة التفاسير ١ / ١٦٥ ، تفسير الطبري ٥ / ٤٣١.
(٣) في ظلال القرآن ١ / ٧٢٩٧.