وأما قول أبي مسلم فهو الذي يدل على غاية ما يمكن أن يعرف البشر عن سر التكوين والإحياء ، وهو توضيح معنى قوله تعالى للشيء «كُنْ فَيَكُونُ» ، ولو لا أن الله تعالى بين لنا ذلك ، بما حكاه عن خليله ، لجاز أن يطمح في الوقوف على سر التكوين الطامحون ، ولو فهم الرازي هذا لما قال : إنه لا خصوصية لإبراهيم على الغير ، وهذا النوع من الجواب قريب من جواب موسى ، إذ طلب رؤية الله تعالى ، ونهى عما زاد على ذلك.
وجملة القول ، فيما يرى صاحب تفسير المنار ، أن تفسير أبي مسلم للآية هو المتبادر الذي يدل عليه النظم ، وهو الذي يجلي الحقيقة في المسألة ، فإن كيفية الإحياء هي عين كيفية التكوين في الابتداء ، وإنما تكون بتعلق إرادة الله تعالى بالشيء المعبر عنه بكلمة التكوين «كن» فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفية له ، إلا إذا أمكن الوقوف على كنه إرادة الله تعالى ، وكيفية تعلقها بالأشياء ، وظاهر القرآن ، وما هو عليه المسلمون ، أن هذا غير ممكن ، فصفات الله منزهة عن الكيفية ، والعجز عن الإدراك فيها ، هو الإدراك ؛ وهو ما أفاده قول أبي مسلم رحمهالله تعالى ، ومما يؤيده في النظم المحكم قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ) فإنه يدل على التراخي الذي يقتضيه إمالة الطيور وتأنيسها على أن لفظ «صرهن» يدل على التأنيس ، ولو لا أن هذا هو المراد لقال : فخذ أربعة من الطير فقطعهن ، واجعل على كل جبل منهن جزءا ، ولم يذكر لفظ الإمالة إليه ، ويعطف جعلها على الجبال ب «ثم» ، ويدل عليه أيضا ختم الآية باسم العزيز الحكيم ، دون اسم القدير ، والعزيز : هو الغالب الذي لا ينال.
وما صرف جمهور المتقدمين عن هذا المعنى على وضوحه ، إلا الرواية بأنه جاء بأربعة طيور من جنس كذا وكذا ، وقطعها وفرقها على جبال الدنيا ، ثم دعاها فطار كل جزء إلى مناسبه ، حتى كانت طيورا تسرع إليه ، فأرادوا تطبيق الكلام على هذا ، ولو بالتكلف ، وأما المتأخرون فهمهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونية ، وإن كان المقام