فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (١).
وهكذا كانت حياة نوح عليهالسلام ، حياة شاقة مريرة ، ومحنته مع قومه محنة شريدة أليمة ، فقد قام بينهم قرونا ودهورا ، بذل فيها أقصى جهده لكي يؤمن قومه بالله تعالى ، وأن يذروا عبادة الأصنام ، وطال الزمن وهو يدعو قومه في السر والعلانية ، ويضرب لهم الأمثال ، ويوجه نظرهم إلى صنع الله بخلقهم أطوارا مختلفة ، وعنايته بهم في حياتهم الجنينية ، وحياتهم في الدنيا ، وخلقه السماوات والأرض ، وأن من بدأهم قادر على إعادتهم ، ذلك أن من خلق لهم الأرض ومتعهم بما خلق فيها ، قادر على إعاداتهم ومجازاتهم (٢).
ورغم ذلك كله ، فإن نوحا عليهالسلام ، لم ير من قومه إلا آذانا صماء ، وقلوبا غلفا ، وعقولا متحجرة ، لقد كانت نفوسهم أيبس من الصخر ، وأفئدتهم أقسى من الحديد ، لم ينفعهم نصح أو تذكير ، ولم يزجرهم وعيد أو تحذير ، وكلما ازداد لهم نصحا ، ازدادوا في طريق الضلال سائرين ، لا يلتفتون إلى دعوة نوح ، ولا يبالون بتحذيره وإنذاره وقد أقام بينهم تسعمائة وخمسين عاما داعيا ومذكرا وناصحا ، وسلك جميع الطرق الحكيمة لإنقاذهم ، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان ، فلم يفلح معهم أبدا ، وكانت دعوته لهم ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ومع ذلك لم تلن قلوبهم ، بل قابلوا الإحسان بالشدة ، ومالوا عليه بالضرب والأذى ، وهو لا يفتأ يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
روى المفسرون أن نوحا عليهالسلام كان يأتي قومه فيدعوهم إلى
__________________
(١) سورة هود : آية ٣٨ ، وانظر : تفسير المنار ١٢ / ٦١ ـ ٦٢ ، تفسير القرطبي ص ٣٢٥٨ ـ ٣٢٥٩ ، تفسير الطبري ١٥ / ٣١٠ ـ ٣١٧ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٦٨٨ ـ ٦٦٩ ، تفسير النسفي ٢ / ١٨٧.
(٢) محمود الشرقاوي : الأنبياء في القرآن الكريم ـ القاهرة ١٩٧٠ ص ١٣٣ ـ ١٣٤.