ومنها إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب ، حيث إنهم عرفوا خبره ، وذلك أنه تعالى بيّن أن أسلافهم بعد مشاهدة تلك الآيات كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ، فكيف يتعجب من مخالفتهم محمدا صلىاللهعليهوسلم وإن وجدوا في كتبهم أخبار نبوته صلىاللهعليهوسلم. ومنها لما أخبر محمد صلىاللهعليهوسلم عن هذه القصة مع كونه أميا ، تبين أن ذلك من الوحي.
بقي هاهنا بحث وهو أن المعتزلة استدلوا بالآية على امتناع رؤية الله تعالى لأنها لو كانت أمرا جائز الوقوع لم تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم حين التمسوا النقل من قوت إلى قوت في قولهم (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١]. وأجيب بأن امتناع رؤيته في الدنيا لا يستلزم امتناع رؤيته في الآخرة الذي هو محل النزاع ، فعل رؤيته تقتضي زوال التكليف عن العبد والدنيا مقام التكليف ، وأيضا اقتراح دليل زائد على صدق المدعي بعد ثبوته تعنت. وأيضا لا يمتنع أن الله تعالى علم أن فيه مفسدة كما علم في إنزال الكتاب من السماء (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] فلهذا جاز الاستنكار لأن مطالبة الرؤية جهرة مطالعة الذات غفلة ، وفيه من سوء الأدب وترك الحرمة ما لا يستحسنه قضية العزة والحشمة.
قوله تعالى (وَظَلَّلْنا) أي جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه كما سيجيء في المائدة ، سخر الله لهم السحاب فيسير بسيرهم يظلهم من الشمس والظل ضوء ثان ، وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه ، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله كما كان لآدم قبل الزلة ، وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع لا أزيد ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني ، فيذبح الرجل منها ما يكفيه لا أزيد. مجاهد : المن صمغ حلو. وهب : هو الخبز السميذ. الزجاج : هو ما منّ الله تعالى به عليهم ، وهذا كما يروى مرفوعا «الكمأة من المن وفيها شفاء للعين» وقيل : السلوى العسل. وقيل : طائر أحمر (كُلُوا) على إرادة القول أي وقلنا لهم كلوا (مِنْ طَيِّباتِ) من حلالات (ما رَزَقْناكُمْ) وهذا للإباحة. (وَما ظَلَمُونا) يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم فجعلوا موضع الشكر كفرا ، وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأن وبال الظلم عائد عليهم لا إلى غيرهم ولا إلى الله تعالى. وإنما قال هاهنا وفي الأعراف والتوبة والروم بزيادة لفظة «كانوا» لأنها إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا بخلاف قوله في آل عمران (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران : ١١٧] لأنه مثل ، والله أعلم.