(إِحْساناً) وإما قبل (قُولُوا) وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تاليا لعبادة الله لوجوه منها : أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية ، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين. ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثوابا (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩]. ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم ، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بار بهما ، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة ، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد. ومنها أن المناسبة والميل والمحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان ، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية ، وهاهنا أسرار فليتأمل. ومنها أنه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه ، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه ، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة ، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيرا منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيرا منه. وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول ، وقد ورد «أطع الوالدين وإن كانا كافرين» وعن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا ، ولهذا أطلق الإحسان إليهما في الآية إطلاقا. وقد تلطف إبراهيم عليهالسلام في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله (يا أَبَتِ ، يا أَبَتِ) والإحسان إليهما أن يحبهما من صميم القلب ويراعي دقائق الأدب والخدمة والشفقة ويبذل وسعه في رضاهما قولا وفعلا ، ولا يمنع أعز أوقاته وكرائم أمواله عنهما ، ويجتهد في تنفيذ وصاياهما ويذكرهما في صالح دعائه كما أرشد الله تعالى إلى جميع ما ذكرنا في قوله (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] إلى آخر الآية.
التكليف الثالث : الإحسان إلى ذوي القرابة ويعبر عنه بصلة الرحم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «الرحم شجنة من الرحمن قال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» والشجنة الاشتباك أي الرحم مشتقة من الرحمن يعني أنها قرابة من الله مشتبكة كاشتباك العروق والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة ، ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين. قال الشافعي : لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث وغير الوارث ، والمحرم وغير المحرم ، والمسلم والكافر ، والذكر والأنثى ، والغني والفقير ، والأجداد والأحفاد ، لا الأبوان والولد