فلما ثبت لكل منهما الأبوة قرن بين ذكرهما في التحية. ومنها أن إبراهيم منادي الشريعة (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) [الحج : ٢٧] ومحمد منادي الدين (سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) [آل عمران : ١٩٣] ومنها أنه كان أول الأنبياء بعد الطوفان ، ومحمد خاتم النبيين ورسول آخر الزمان. ومنها إن الخليل تبرأ عن سائر الأديان (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [هود : ٥٤] والحبيب تنزه عن جميع الأكوان (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] ثم إن إبراهيم عليهالسلام ذكر لذلك الرسول صفات أولاها (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) فهو الفرقان المتلو عليهم ، أو جميع ما بلغه من دلائل التوحيد وغيره «أوتيت القرآن ومثله معه» وثانيتها «ويعلمهم الكتاب» أي معانيه وحقائقه ، وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا من التحريف ، ولأن لفظه ونظمه معجز وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. وثالثتها قوله (وَالْحِكْمَةَ) أي ويعلمهم الحكمة. وقيل : هي الإصابة في القول والعمل جميعا ، فلا يسمى حكيما إلا وقد اجتمع فيه الأمران فيضع كل شيء موضعه ولهذا عبر عنها بعض الحكماء بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، ويناسبه قوله صلىاللهعليهوسلم «تخلقوا بأخلاق الله» وعن ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له. وعن قتادة وإليه ذهب الشافعي : هي سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأنه ذكر تلاوة الكتاب ثم تعليمه ثم عطف عليه الحكمة فيكون شيئا خارجا عنهما وليس ذلك إلا سنة الرسول ، فإن الدلائل العقلية الدالة على التوحيد والنبوة وما يتلوهما مستقلة بالفهم فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى. وقيل : هي الفصل بين الحق والباطل من الحكم. وقيل : المراد بالكتاب الآيات المحكمات ، وبالحكمة المتشابهات. وقيل : هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح. ورابعتها (وَيُزَكِّيهِمْ) لأن الإرشاد يتم بأمرين : التحلية والتخلية. فكما يجب على المعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها ، يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي صلىاللهعليهوسلم سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ، ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق. وقيل : يزكيهم يطهرهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] وقيل : يشهد لهم بأنهم عدول يوم القيامة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] وعن ابن عباس : التزكية هي الطاعة لله والإخلاص (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر الذي لا يغلب (الْحَكِيمُ) العالم الذي لا يفعل إلا على وفق المصالح ، وإذا كان كذلك صح منه