ينصرف إلى قوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي كما خصصنا بعض الجهات المتساوية بمزيد التشريف والتكريم حتى صارت قبلة فضلا منا وإحسانا ، جعلناكم مختصين بالعدالة برا منا وامتنانا مع تساوي الخلق في العبودية. وقيل : قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكورا إذا كان المضمر مشهورا معروفا مثل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء ، فالمعنى ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد غيري جعلناكم أمة وسطا. الجوهري : يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف ، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم ، وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط ، وإن لم يصلح فيه بين هو وسط بالتحريك. قال : والوسط من كل شيء أعدله ، وشيء وسط أي بين الجيد والرديء ، وأمة وسطا أي عدولا قال زهير :
همو وسط يرضى الأنام بحكمهم |
|
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم |
وذلك أن العدل متوسط في الأخلاق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ولهذا ذكره الله تعالى في معرض المدح والامتنان. وقيل : الوسط الخيار لأنه يستعمل في الجمادات. قال في الكشاف : اكتريت بمكة جمل أعرابي فقال : أعطني من سطاتهن ـ أراد من خيار الدنانير ـ ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وإنما أطلق الوسط على الخيار لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والعيب ، والأوساط محمية محوطة. وقيل : المراد بالوسط هاهنا أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في شأن الأنبياء لا كالنصارى حيث جعلوا النبي صلىاللهعليهوسلم ابنا وإلها ، ولا كاليهود حيث قتلوا الأنبياء وبدلوا الكتب ، ولأن الوسط في الأصل اسم وصف به استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) الأكثرون على أن هذه الشهادة في الآخرة إما بأن يكونوا شهداء للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم. روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء يوم القيامة فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا ـ وهو أعلم ـ فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق. فيؤتى بمحمد فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] قلت : والحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلىاللهعليهوسلم في الفضل عن سائر الأمم حيث يبادرون إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعا ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، ولذلك