والتنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه وذلك مما لا نزاع فيه ، وإنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف وتثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل. (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ومن أي بلد خرجت يا محمد (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إذا صليت (وَإِنَّهُ) وإن هذا المأمور به (لَلْحَقُ) الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه (مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين. واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات ، وللعلماء في سبب التكرير أقوال :
أولها : أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام ، والثانية على أن يكون غائبا عنه ولكن يكون في البلد ، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض ، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم.
وثانيها : أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل ، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيدا ، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) كما أن قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة.
وثالثها : أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلىاللهعليهوسلم وطلبا لهواه حيث قال (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي ، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك ، وفي الثالثة بيان الغرض.
ورابعها : أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة ، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعارا بأنها لا تصير منسوخة البتة.
وخامسها : الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها ، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى. الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث.
وسادسها : هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير.
وسابعها : قلت : الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلىاللهعليهوسلم (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ثم على تكليف عام له ولأمته (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ