فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) والآية الثانية (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمن صلىاللهعليهوسلم (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٤٩] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير. وأيضا اقتصر هاهنا على أمر النبي صلىاللهعليهوسلم دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام ـ حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. وأيضا قدم على الآية قوله (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [فاطر : ٣٢] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته ، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باق بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
قوله (لِئَلَّا يَكُونَ) أي ولوا لأجل هذا الغرض. وقال الزجاج : يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة. والناس قيل للعموم ، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. وقيل : هم العرب قالوا : إنه يقول أنا على دين إبراهيم ، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم. وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة ، أو سماها حجة تهكما أو طباقا أو بناء على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة. وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى : ١٦] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة ، وعلى هذا فالاستثناء متصل. والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ، أو بعض العرب القائلون بأن محمدا عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية. وقيل : الاستثناء منقطع. وقيل : «إلا» بمعنى الواو وأنشد شعر :
وكل أخ مفارقه أخوه |
|
لعمر أبيك إلا الفرقدان |
يعني والفرقدان. وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سبب (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فإنهم لا يضرونكم (وَاخْشَوْنِي) واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم ، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع