(وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما يستقبل فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق كما أن قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر ـ وهو اسم يقع على ابتداء ـ خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره ، لزوم سيرة الاتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات. والمراد من قوله (إِلَيْهِ) أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إليه ، ولا مستعان إلا هو (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].
التأويل : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) هي مدة الحياة الفانية ، وقيل إلى أربعين سنة ، ولهذا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد. نعم لو صدق طلبه قبل الأربعين وما أمكنه الوصول فقريب أن يحصل مقصوده بعد الأربعين ، ومن فاته الطلب في عنفوان شبابه إلى أن بلغ الأربعين فحري منه عليه الحيف إذ ضيع اللبن في الصيف ، لكنه يصلح للعبادة التي أجرها الجنة. (فَلا رَفَثَ) لا يميل إلى الدنيا وزينتها وليهجرها كالمحرم بعد الاغتسال بماء الإنابة يتزر بإزار التواضع والانكسار ، ويتردى برداء التذلل والافتقار. (وَلا فُسُوقَ) ولا خروج من الأوامر والنواهي بل لا يخرج من حكم الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) لا نزاع للسالك الصادق في طلب الوصول لا بالفروع ولا بالأصول فلا في مالها مع أحد يخاصم ولا في جاهها لأحد يزاحم ، فمن نازعه في شيء من ذلك يسلمها إليه ويسلم عليه (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وتزودوا لكل سالك زاد. فزاد أولي القشور كعك وسويق وهم الذين مقصدهم البيت ومقصودهم الجنة ، وزاد أولي الألباب التقوى وهم من مقصدهم ومقصودهم رب البيت. وتقوى أهل القشور مجانبة الزلات ومواظبة الطاعات ، وتقوى أولي الألباب مجانبة الصفات بالصفات والذات بالذات. فلما كان مقصودهم خير المقاصد كان زادهم خير الزاد (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً) مقام ابتغاء الفضل بمعنى الرحمة بترك الموجود وبذل المجهود وهو في سيره إلى عرفات ، ومقام ابتغائه بمعنى مواهب القربة ببذل الوجود عند الوقوف بعرفات ، لأن الحج عرفة وعرفة المعرفة ومقام ابتغائه بمعنى الرزق هو قبل سيره إلى عرفات. وقال جمع من المحققين : إنه بعد استكمال الحج الحقيقي لأنه لقوة عرفانه بالله لا تضره الدنيا بل يكون تصرفه فيها بالله في الله لله (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) يعني القلب الذي حرام عليه الاطمئنان بغير ذكر الله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي كما هدى قلوبكم يهدي نفوسكم كيلا تقع في خطر حب الدنيا. (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ) قبل الوقوف بعرفات المعرفة (لَمِنَ الضَّالِّينَ) في طلب الدنيا وحظوظ النفس (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعنى محمدا وسائر الأنبياء والأولياء أي