أيضا (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) لأن هذا التصوير لما كان منه صفة فإن شاء صوره من نطفة الأب ، وإن شاء صوره ابتداء من غير أب. وأيضا قالوا للرسول صلىاللهعليهوسلم : ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروحه؟ وهذا يدل على أنه ابن لله. فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، محتمل للحقيقة والمجاز. وإذا ورد اللفظ بحيث يخالف الدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل ، أو تفويضه إلى علم الله وذلك قوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) الآية. فظهر أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة إلا وقد اشتملت هذه الآيات على دفعها والجواب عنها ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) مع أنه لو أطلق كان أبلغ؟ قلت : الغرض تفهيم العباد كمال علمه وذلك عند ذكر السموات والأرض أقوى لعظمتهما في الحس ، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، وهذه فائدة ضرب الأمثلة في العلوم. قال الواحدي : التصوير جعل الشيء على صورة ، والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه ، وأصله من صاره إذا أماله. وذلك أن الصورة مائلة إلى شكل أبويه. والأرحام جمع الرحم ، والتركيب يدل على الرقة والعطف كما سلف. وقيل : سمي رحما لاشتراك الرحم فيما يوجب الرحمة والعطف. وقرىء تصوركم أي صوركم لنفسه ولتعبده. و «كيف» في موضع الحال أي على أي حال أراد طويلا أو قصيرا ، أسود أو أبيض ، حسنا أو قبيحا إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة. ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد ردا على النصارى القائلين بالتثليث فقال (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إلى كمال العلم. وفيه رد على من زعم إلهية عيسى فإن العلم ببعض الغيوب وإحياء بعض الأشخاص لا يكفي في كونه إلها.
ولنذكر هاهنا مسائل : الأولى : القرآن دل على أنه بكليته محكم وذلك قوله : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يوسف : ١] والمراد كون كله كلاما ملحقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني ، وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله لوثاقة مبانيه وبلاغة معانيه. ودل على أنه بتمامه متشابه (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] والمراد أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقص والتناقض. ثم إن هذه الآية (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) دلت على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه. فيعني هاهنا بالمحكم ما هو المشترك بين النص والظاهر ، وبالمتشابه القدر المشترك بين المجمل والمؤول كما تقرر في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا الكتاب. والإحكام في اللغة المنع وكذا سائر تراكيبه.