كلامه التناقض ، فيحكمون بأن ذلك المتشابه لا بد أن يكون له معنى صحيح عند الله وإن دق عن فهومنا. وقيل : هو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل حتى علموا من التأويل ما علموا. ثم إنه تعالى حكى عن الراسخين نوعين من الدعاء : الأول قولهم (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي بعد وقت هدايتنا ، والثاني قولهم (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) سألوا ربهم أوّلا أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الأباطيل والعقائد الفاسدة ، ثم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ويزين جوارحهم وأعضاءهم بزينة الطاعة والعبودية والخدمة. ونكر رحمة ليشمل جميع أنواعها. فأوّلها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة ، وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة ، وثالثها أن يحصل له في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ، ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت ، وخامسها سهولة السؤال والظلمة والوحشة في القبر ، وسادسها في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وتبديلها بالحسنات ، وسابعها في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وثامنها في الحضرة رفع الأستار ورؤية الملك الجبار. وفي قولهم (مِنْ لَدُنْكَ) تنبيه على أن هذا المقصود لا يحصل إلا من عنده ويؤكده قوله (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فالمطالب وإن كانت عظيمة فإنها تكون حقيرة بالنسبة إلى غاية كرمك ونهاية وجودك وموهبتك. ولنعد إلى ما يتعلق بالدعاء الأول قال أهل السنة : القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر ، وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه ، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع. فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين وغيرها مما ورد في القرآن ، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها. وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن» (١) يعني الداعيتين. ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى مدح هؤلاء الراسخين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ويتركون الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه ، فتكون هذه الآية من أقوى المحكمات وهو ظاهر في أن الإزاغة والهداية كلتيهما من الله تعالى. أما المعتزلة فقد قالوا : لما دلت الدلائل على أن الإزاغة لا يجوز أن تصدر من الله تعالى لأن ذلك ظلم وقبيح ، وجب صرف الآية إلى التأويل فقال الجبائي واختاره القاضي : المراد أن لا يمنع قلوبهم الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان ، وزيف بأن اللطف إن
__________________
(١) رواه الترمذي في كتاب القدر باب ٧. مسلم في كتاب القدر حديث ١٧. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ١٦٨ ، ١٧٣).