الأقرب وهو الفئة الكافرة أولى ، ولأنه سبحانه جعل هذه الحالة آية للكفار حيث خاطبهم بقوله (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) فوجب أن يكون الراؤون هم الكفار حتى تكون حجة عليهم ، ولو كانت الآية مما شاهدها المؤمنون لم يصلح جعلها حجة على الكفرة. والحكمة في ذلك أن يهابهم المشركون ويجبنوا عن قتالهم وهذا لا يناقض قوله في سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الآية : ٤٤] لاختلاف الوقتين فكأنهم قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. على أن تقليلهم تارة في أعينهم وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة وإظهار الآية. الاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون. فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين والسبب فيه ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] والكافرون كانوا قريبا من ثلاثة أمثالهم ، فلو رأوهم كما هم لجبنوا وضعفوا. الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين ، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك. وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد : ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة. وهاهنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا ، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي. أما الأول فهو محال عقلا والقول به سفسطة فلهذا قيل : لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرا. وعلى هذا تكون الرؤية رؤية البصر ، ويكون (مِثْلَيْهِمْ) نصبا على الحال ، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة ، لكن قوله : (رَأْيَ الْعَيْنِ) لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزا لا واجبا والزمان زمان خوارق العادات. وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس ، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ ، فقد يرى البعض دون البعض. أو لعل الغبار صار مانعا عن إدراك البعض ، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعا عن رؤية ثلث العسكر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) إما بالغلبة كيوم بدر ، وإما بالحجة والعاقبة كيوم أحد. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكره من