مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها. وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل. وقيل : كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق. وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر.
وهاهنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب سببا للحرمة؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء. وأيضا لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سببا لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية. وأيضا الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم (فَاعْتَبِرُوا) [الحشر : ٢] ولقوله في معرض المدح (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر ، وعقولهم أنور ، وأذهانهم أصفى ، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى. ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته. والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل : إلا ما حرمه الله على إسرائيل. فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال : الشافعي يحلل لحم الخيل ، وأبو حنيفة يحرّمه. وقال الأصم : لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس كما يفعله الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم. وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب. ومعنى قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة ، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة بدليل قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) [النساء : ١٦٠] إلى آخر الآية. ثم إن القوم نازعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في إخباره عن الله تعالى فأمروا بالرجوع إلى كتابهم كما سبق تقريره ، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا فلزمت الحجة عليهم وظهر إعجاز النبي صلىاللهعليهوسلم وصدقه ، فلهذا قال : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الذي ظهر من الحجة الباهرة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواضعون الباطل في موضع الحق ، والكذب في مقام الصدق والعناد في محل الإنصاف. وأيضا إن تكذيبهم وافتراءهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن يقتدي بهم من أشياعهم (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في جواب الشبه الثلاث وفيه تعريض بكذبهم (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وهي التي عليها محمد صلىاللهعليهوسلم ومن تبعه حتى تتخلصوا من اليهودية التي فيها فساد دينكم ودنياكم حيث ألجأتكم الى تحريف كتاب الله لأغراضكم الفاسدة