أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) فكانت العناية به أشد فكان تقديمه أهم. وليعلم أن التكميل أفضل من الكمال نفسه ولهذا استلزم الأول الثاني دون العكس ، ولأن التكميل يتضمن الكمال فكان في تأخير الإيمان بالله تكريرا له مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة على أن الواو لا تفيد الترتيب ، وأيضا أراد أن يبني عليه قوله : (وَلَوْ آمَنَ). وفي التفسير الكبير : إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية ، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم ، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل. ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك ، ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) يعنى إيمانا معتبرا وهو الإيمان بالله وبسائر ما لا بد منه من الأمور المعدودة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الأمة ، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله ، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين ، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا ، وبعد ذلك خلود في النار. ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه ، فاللام للمعهود السابق (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه ، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضا فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم ، فلا ينبغي أن يقتدى بهم البتة. ثم أخبر عن حالهم وكان كما قال وهو آية الإعجاز بجملة مستأنفة هي (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) الإضرار ألا يجاوز أذى بقول كطعن في الدين أو تهديد أو تحريف نص أو إلقاء شبهة أو إظهار كلمة الكفر بإشراكهم عزيرا والمسيح. والأذى مصدر كالأسى يقال : يفعلون أذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والأذى نوع من الضر فصح انتصابه به والتقدير : لن يضروكم شيئا من أنواع الضرر إلا ضررا يسيرا. ومن هذا تبين أن الاستثناء ليس بمنقطع على ما ظن (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) وإنما لم يجزم بالعطف على (يُوَلُّوكُمُ) لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون نفي النصر وعدا مطلقا ، وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم وينهزموا ، ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة. ومعنى «ثم» إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أينما كانوا أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال. فإن قيل : هب أن اليهود كذلك ، لكن النصارى قد يوجحد لهم قوة وشوكة في ديارهم. قلنا : هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على