الطلب وعصيتم الدليل المربي (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الدليل بالتربية (ما تُحِبُّونَ) من دلالة الطريق ، وإنما عصيتم الدليل إذ دلكم على الله لأن منكم من كان همته زخارف الدنيا ، ومنكم من كان همته طلب نعيم الآخرة. قرئت هذه الآية عند الشبلي فصاح صيحة وقال : ما كان من أحد يقال له ومنكم من يريد الله ثم صرفكم عن جهاد النفس وقتل صفاتها باستيلائها عليكم ليمتحنكم بالستر بعد ما تجلى لكم أنوار المشاهدات ، وبالصحو بعد ما أسكركم بأقداح الواردات ، وبالفطام بعد ما أرضعكم بألبان الملاطفات (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) يعني بعد ابتلائكم عفا عن التفاتاتكم إلى الدنيا والآخرة بالعناية الأزلية (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في الأزل إذ تصعدون في طريق الحق طالبين بعد ما كنتم هاربين ولا تلتفتون إلى أحد من الأمرين الدنيا والآخرة ، ورسول الوارد من الحق يدعوكم إليّ عبادي إليّ عبادي ، فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة غم طلب الحق لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من زخارف الدنيا ولا لما أصابكم من نعيم الآخرة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من ترك نعيم الدنيا والآخرة في طلب وجدانه فلا يخيب رجاءكم ويوفي جزاءكم. ثم أخبر عن إنزال حقائق أصناف ألطافه على عباده في صور مختلفة. فأنزل الأمن في صورة النعاس على الصحابة ، وأخرج جواهر الوقائع السنية لأرباب القلوب والمكاشفات من معدن النعاس فإن أكثرها يقع بين النوم واليقظة. وطائفة من أرباب النفوس ومدعي الإسلام لا هم لهم إلا هم أنفسهم من استيفاء حظوظها واستيفاء لذاتها (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) وهو أن الأمور إلى الخلق لا إلى الله ولا بقضائه وقدره. هل لنا من أمر النصرة والظفر من شيء؟ (ما قُتِلْنا هاهُنا) بالباطل على أيدي حزب الشيطان (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أنها المنافقون لأن الصدور معدن النفاق والغل ووسوسة الشيطان (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [الأعراف : ٤٣] (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس : ٥] (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أيها المؤمنون لأن القلوب محل الإيمان والاطمئنان (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] ونسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) الشيطان خلق من نار فلهذا استخرج من معدن الإنسان حديد ما كسبوا من التولي ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ليعلم أن لله تعالى في كل شيء من الخير والشر أسرارا لا يعلمها إلا هو. ومن هنا قال : «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (١) إذا
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث ١١. الترمذي في كتاب الجنّة باب ٢. أحمد في مسنده (١ / ٢٨٦) ، (٢ / ٣٠٥).