السورة ببيان كمال العلم كما أنه ابتدأها بكمال القدرة فبهما تتم الإلهية ويحصل الترهيب والترغيب للعاصي والمطيع والله المستعان.
التأويل : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط. فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبيا وهموا بقتله ، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله ، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته ، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» (١). (وَرُوحٌ مِنْهُ) لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان ؛ فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذانا صما وعيونا عميا فيكون في قومه كالنبي في أمته (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) يعني نفوسكم والرسول والله. بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) سبحانه أن يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولا وآخرا وظاهرا وباطنا (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) لكل هالك. (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ) جعل نفس النبي برهانا لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه. فمن ذلك برهان بصره (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] ومنه برهان أنفه «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» (٢) ومنه برهان لسانه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز. وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر ، وبرهان يده (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٤٨. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦٨. أحمد في مسنده (١ / ٢٣ ، ٢٤ ، ٤٧).
(٢) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٤١).