نسيانها مع تواترها وتواليها في كل لحظة ولمحة؟ فالجواب أنها صارت لتواليها كالأمر المعتاد فصار من غاية الظهور كالأمر المستور ، أو المراد التوبيخ على عدم القيام بمواجبها فكأنها كالشيء المنسي. الثاني ذكر الميثاق ومعنى : (واثَقَكُمْ بِهِ) عاقدكم به عقدا وثيقا يعني ميثاق رسوله حين بايعهم تحت الشجرة وغيرها على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه. وعن ابن عباس : هو الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل حين قالوا : آمنا بالتوراة وبما فيها من البشارة بنبي آخر الزمان ومن غيرها. وقال مجاهد والكلبي ومقاتل : إنه إشارة إلى قوله للذرية : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وقال السدي : هو ما ركز في العقول من حسن هذه الشريعة وهو اختيار أكثر المتكلمين.
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلّا أنها منحصرة في نوعين : التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) قال عطاء : يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. وقال الزجاج : بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلّا على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم بغض (قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي فيهم فحذف للعلم. ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا فقال : (اعْدِلُوا) ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال : (هُوَ) أي العدل الذي دل عليه اعدلوا (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه. وقيل : المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام ، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة ، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو نحو ذلك. وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) بيان للوعد قدم لهم وعدا ، ثم كأنه قيل : أي شيء ذلك؟ فقيل : لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة ، أو يكون وعد مضمنا معنى قال ، أو يجعل وعد واقعا على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجز أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل. وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نورا وفي عرصة القيامة فيزيده حبورا. والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)